لقد تأسست دولة الرسول بناءً على "عقد اجتماعي"، ويمثل ذلك العقد اتفاقًا وتعاقدًا بين الرسول وبين أهل يثرب، فانتقلوا من "حالة الفوضى الأولى" و"حالة اللادولة"، إلى حالة "النظام" و"الدولة"؛ تمامًا كما وصف فلاسفة العقد الاجتماعي، وكأنّهم قرأوا تاريخنا وصاغوه مبادئَ فلسفية سياسية عليا. وقصرنا نحن في قراءة السيرة قراءة سياسية معاصرة، وذهبنا نطالع كتب ما سمي بالسياسة الشرعية والأحكام السلطانية؛ وهي كتب أملاها واقعٌ قد تغير وأُلفتْ تحت إشراف حكام مستبدين، ومع ذلك وُصفت بالشرعية! فأين نحن الآن من فكرة التعاقد التي نسيها المسلمون نسيانًا؟ لقد ذهبت فرق ضالة تشرعن للظلم والقتل والحرق والتكفير والتفجير والله ورسوله بريئان من كل ما يفعله السفهاء والمتطرفون والإرهابيون منا نحن المسلمين.

في هذا المقال سأتناول - بإيجاز يقتضيه المقام - فكرةً ربما تكون جديدةً، وهي فكرةُ النشأةِ التعاقدية للدولة الإسلامية. ثم أفرع عن هذه الفكرة الرئيسة، فكرةَ المواطنة وغيرها من الأفكار التي هي نتيجة مباشرة للفكرة الأم فكرة "التعاقدية".

مقدمة

قبل أن تصبحَ مشكلةُ الحكم في الإسلام مشكلةً للحكم، وقبل أن يختلف الصحابة رضوان الله عليهم حول مسألة الحكم، وقبل أن تُكتب المؤلفات في القرون التالية التي تناولت مشكلة الحكم، قبل أن تؤلف ما يعرف بكتب "السياسة الشرعية"، أو "الأحكام السلطانية تلك الكتب التي حاولت التنظير السياسي للحكم في الإسلام والتي كُتبت تحت ضغوط مشكلات عصرها وربما تحت "رعاية" أو "رقابة" سلاطينها وحكامها، الذين تسموا بأسماء الخلفاء، أقول قبل كل ذلك علينا أن نعودَ إلى النبع الأول الذي نبعت منه فكرةُ الدولة في الإسلام، ويجب أن نعود أولاً إلى المصدر الصافي والقواعد المؤسسة للمدينة/ دولة الرسول. فهذه - في ظني - هي البداية الصحيحة لمناقشة فكرة الدولة وفكرة المواطنة معًا.

في هذا المقال سأتناول - بإيجاز يقتضيه المقام - فكرة ربما تكون جديدة، وهي فكرة النشأة التعاقدية للدولة الإسلامية. ثم أفرع عن هذه الفكرة الرئيسة، فكرة المواطنة وغيرها من الأفكار التي هي نتيجة مباشرة للفكرة الأم فكرة "التعاقدية". ولكن قبل ذلك يحسن أن أتناول فكرة التعاقد أو العقد الاجتماعي ونشأتها في الغرب الأوربي حتى نستطيع أن نعرف موقع فكرة النشأة التعاقدية الإسلامية من فكرة التعاقد الاجتماعي الأوربية: