مقدمة:

التفكيرُ الفلسفيُ قديمٌ قِدَم الإنسانية ذاتها، ولكن الفلسفة اليونانية هى الفلسفة التي أرست دعائم هذا التفكير الفلسفي، واليونانيون هم الذين صاغوا مشكلاتها، وحددوا مناهجها وتركوا تأثيرهم الهائل على مسار الفكر الفلسفي العالمي: شرقًا وغربًا.

ولا تعود أهمية الفلسفة اليونانية إلى كونها فلسفة من أقدم الفلسفات العقلية التي عرفها الإنسان فحسب بل لكونها- كذلك- الأساس الذي بُنيت عليه الحضارةُ الغربيةُ المعاصرةُ؛ ففلاسفة اليونان هم الآباءُ الأولون للحضارة الغربية الحديثة. فإذا أردنا أن نفهم الأوربيين فهمًا حقيقيًا فلا بد أن نفهم-أولاً- الأساسَ الذي قامت عليه حضارتهم ولا بد أن نفهم مذاهب ونظريات الآباء الأولين الذين علموهم التفكيرَ الفلسفي والحكمةَ العقلية.

ليس هذا فحسب، بل إن التفكير الحضاري للأديان السماوية الثلاثة نشأ في كنف الفلسفة اليونانية؛ إما معارضًا لها أو متفقًا معها، أو حتى مُوفِقًا بين ما جاء به فلاسفُتها وما جاء به أنبياءُ الديانات السماوية عليهم-جميعًا- الصلاة والسلام.

لقد أصبح في حكم الضروري لمن يريد أن يفهم التطور الفكري لحضارتنا الإسلامية المجيدة أن يتعرف على المذاهب الفلسفية اليونانية، التي تأثر بها الفكرُ الإسلامي وأثرت فيه، ثم أعاد- أي الفكر الإسلامي- إنتاجَها وردها إلى العالم الأوربي مرة أخرى (فخرج الأوربيون من عصورهم الوسطى إلى فجر النهضة بعد أن تعرفوا على الفكر الإسلامي وتأثروا به فنقلهم تلك النقلة الحضارية الجبارة من الظلمات إلى النور)، مسجلاً- بهذا العمل الحضاري الخلاق- ردًا لدينٍ حضاري كان عليه للأوربيين متمثلاً في أخذهم التفكير الفلسفي عن الآباء المؤسسين للحضارة الأوربية أعني اليونانيين القدماء.

وقُلْ مثلَ ذلك لمن يريد أن يفهمَ التطورَ الحضاري للفكر اليهودي والفكر المسيحي؛ إذ ينبغي علي أتباع هؤلاء أن يلموا بالأصول الأولى للتفكير الفلسفي الذي تأثر بمذاهب الفلاسفة اليونانيين القدماء.

لكل هذه الأسباب وغيرها نهتم بدراسة تاريخ الفلسفة اليونانية ليس باعتباره تاريخًا للفكر الأوربي القديم بل باعتباره جزءًا أصيلاً من تاريخنا الحضاري الذاتي وجزءًا أساسيًا من تاريخٍ مازال يعمل تأثيره في الفكر البشري، منذ طاليس الملطي أول الفلاسفة في القرن السادس قبل الميلاد، وحتى كتابة هذه السطور، وربما إلى أن يرث الله- جل وعلا!- الأرضَ ومن عليها.

     هكذا ننظر إلى تاريخ الفلسفة باعتباره إرثًا إنسانيًا حضاريًا متصل الحلقات. وفي هذا الكتاب نعرض للفلسفة اليونانية منذ أن بدأت في القرن السادس قبل الميلاد على يد طاليس الملطي وحتى الفلاسفة السوفسطائيين.

وسوف نتبع المنهج التحليلي والهرمينوطيقي في العرض والمنهج النقدي المقارن في المعالجة معتمدين– بالأساس- على النصوص الأصلية للفلاسفة الذين نقوم بدراستهم، بل وسوف نكثر من الاعتماد على النصوص لأسبابٍ، منها:

أولاً:  إن هذا الكتاب مخصص، في المقام الأول، لطلاب الفلسفة اليونانية ودارسيها بصفة خاصة، ثم للمثقف غير المتخصص بصفة عامة، حتى يمكننا أن نألفَ النصوص القديمة ونألف لغتها العميقة.

ثانيًا: ليتسنى لنا الدخول في المناقشات العميقة لشراح الفلسفة اليونانية القدماء منهم والمحدثين، فلا نتفق إلا  ونحن على وعي، ولا نختلف إلا ونحن على هَدْي النصوص وضوئها الذي ينير لنا ذلك السبيل.

ثالثًا:  لنكون- بذلك-  أقرب إلى الحقيقة التي سعى إليها كلُ فلاسفة اليونان قديمًا، فلا نقوٍّلَهم ما لم يقولوا، ولا نلصق بهم ما لم يخطر لهم-هم أنفسهم- على بالٍ من مذاهب وتوصيفات حديثة!

وليس معنى اهتمامنا بالنصوص أن نغفل دلالتها أو تأثيرها عبر تاريخ الفلسفة الطويل، فرغم تاريخية هذه النصوص إلا أنها لا يمكن لنا أن نحبسها داخل التاريخ، بل – وهذا من خصائص كل نصٍ فلسفي خالد- تتجاوز هذه النصوص الفلسفية الزمان والمكان، بل وتتجاوز أغراضَ قائلها نفسه، إلى عصور غير تلك التي قيلت فيها، أو زمن اختلف كليةً عن الزمن الذي أنتجها، عبر سياقٍ اجتماعي اقتصادي سياسي مغايرٍ تمامًا.

وفي ذلك تكمن عظمةُ الفكر الفلسفي الذي أُنتج في زمانٍ ومكان معينين، ولكنه لا يعترف لا بحدود الزمان ولا بقيود المكان فينطلق ممارسًا تأثيره الخلاق عبر العصور في أجيال أخرى تتلقفه متأثرةً به، مسترشدةً بهديه، مضيفة إليه من عبقريتها الخاصة، حسب إملاءات العصر، وضروراته ومشكلاته، وكأنه أُنتج لزمانها الخاص الذي تعيشه بكل حيويةٍ وتطلعٍ، نحو بلوغ الحقيقة، أو حتى محاولة الاقتراب منها. إنه التفكير الفلسفي الذي هو تفكير تاريخي، وفي الوقت نفسه تفكير يتجاوز التاريخ!

وسوف نعرضُ، بالتفصيل المناسب، للفلاسفة اليونانيين منذ طاليس وحتى السوفسطائيين. وهى فترة يعطيها بعضُ الباحثين صفحاتٍ قليلةً في كتابٍ ضخمٍ لتاريخ الفلسفة. سنفعل نحن العكس تمامًا سنركز- بتفصيلاتٍ لازمة- على الفلاسفة الأُوَل الذين قام صرحُ الفلسفة العالمي علي أكتافهم. نعم سنعطى للفلاسفة السابقين على سقراط حقَهم الكاملَ في التعبير عن آرائهم، التي لولاها ما كان يمكن أن يظهر إلى الوجود فلاسفةٌ عظام كسقراط وأفلاطون وأرسطو. (وهؤلاء الفلاسفة: سقراط وأفلاطون وأرسطو، هم موضوع الجزء الثاني من هذا التاريخ الذي نقوم- مستعينين بالله – بكتابته كتابةً لعلها تكون إضافةً- ولو ضئيلة- إلى الكتابات السائدة في هذا المجال). ولولا سقراط وأفلاطون وأرسطو ماكان الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، ولولا الفلاسفة السابقون على سقراط ما كان سقراط وأفلاطون وأرسطو!

قسمتُ هذا الكتاب إلى الفصول التسعةِ الآتية:

الفصل الأول: المدرسة الأيونية الملطية:

الفصل الثاني: هيراكليتوس

الفصل الثالث: فيثاغورس

الفصل الرابع: اكسينوفانيس

الفصل الخامس: المدرسة الإيلية

الفصل السادس: أمبادوكليس

الفصل السابع: أناكساجوراس

االفصل الثامن: المدرسة الذرية

الفصل التاسع: مدرسة السوفسطائيين

إن الفترة الهيلينية هي فترة تأسيسية للعلم اليوناني، وللفلسفة اليونانية. لذلك هي فترة بالغة الأهمية في تاريخ الفكر الإنساني كله. فإن لم نفهم هذه الفترة، المؤسسة للحضارة الأوربية المعاصرة، حقَ الفهمِ نكون قد أغفلنا الأساسَ الذي قامت عليه حضارةٌ معينةٌ، هي الحضارة الأوربية، وتأثرت بها حضاراتٌ مختلفةٌ، ومغايرة  كالحضارة الإسلامية. وفي ذلك جرمٌ قد نرتكبه في حق الوعي دون أن ندري!

وسوف نفيد- بالطبع- من جهود العلماء المؤرخين الذين سبقونا؛ إذ لولا جهودهم الجبارة ما كان هذا الكتاب أصلاً. فهذا الكتاب يدين بالفضل العظيم لكل من كتب سطرًا في تاريخ الفلسفة اليونانية، ولكل من ترجم نصًا. وأخص بالذكر العالمَ الفيلسوفَ المصري الراحل الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، رحمه الله تعالى رحمةً واسعة، وكتابه الرائد الذي اعتمدتُ عليه اعتمادًا كبيرًا في الاقتباس من نصوص الفلاسفة السابقين على سقراط والتي ترجمها عن أساطين الدراسات اليونانية من الأوربيين، أعني كتاب: "فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط".

وقد عدتُ إلي هؤلاء الأساطين، من مؤرخي الفلسفة اليونانية مسترشدًا بترجماتهم وتواريخهم: جون بيرنت، وكاثلين فريمان، وتسلر، وكورنفورد، وفيرنر ييجر، وجثري، وجومبرتز، وانترشتينر، وستيس، وكوبلستون، وراسل، وغيرهم. بالإضافة إلى الكتاب العمدة الذي ينهل منه كلُ باحثٍ في تاريخ الفلسفة، أعني كتاب ديوجينيس اللائرتي: "حياة مشاهير الفلاسفة".

وفي النهاية لا يسعنى إلا أن أقدم- ممتنًا امتنانًا لا حدودَ له- تحيةً لكل العلماء والباحثين، الذين رجعتُ إليهم واقتبستُ منهم، من المؤرخين المصريين والعرب لتاريخ الفلسفة اليونانية، والواردة أسماؤهم العظيمة في مراجع هذا الكتاب.

إني لأقر إقرارًا: أن العلم ذو طبيعة تراكمية، يستفيد فيها اللاحقُ من السابقِ، ولا ضير بعد ذلك أن يخالفَ اللاحقُ السابقَ أو أن يوافقه، وأنه لولا السابق ما كان اللاحق، ولولا القديم ما كان الحديث والمعاصر.

آمل أن أكون قد قدمتُ مفيدًا، وآمل، بشكل أكبر، أن أكون على دربِ هؤلاء المؤرخين للفلسفة اليونانية؛ خدمةً للعلم والوطن.

 والله- تعالى!- من وراء قصدي، هو مولاي عليه أتوكلُ وإليه-تعالى!- أنيبُ.

شرف الدين عبد الحميد

جامعة سوهاج 2015 م