مقدمة

هذا هو الكتاب الثالث من تاريخ الفلسفة اليونانية، بعنوان "مدارس الفلسفة اليونانية في العصر الهللينستي: الأبيكورية- الرواقية- الشكية- الأفلاطونية الجديدة". نسير فيه على نفس المنهج الذي بدأناه في الجزء الأول من هذا التاريخ بعنوان: "الفلسفة اليونانية في العصر الهلليني، من طاليس إلى السوفسطائيين([1])"، وكان الجزء الثاني من هذا التاريخ بعنوان: "الفلسفة اليونانية في العصر الذهبي: سقراط- أفلاطون- أرسطو".   

الفترة الهللينستية، في تاريخ الفلسفة اليونانية، هى تلك الفترة التي ابتدأت بوفاة أرسطو عام 323 ق.م، وانتهت بنهاية الفلسفة اليونانية وإغلاق المدارس الفلسفية عام 529 م بأمر من الإمبراطور الروماني جستنيان([2]).

 في هذه الفترة امتزجت ثقافة الإغريق بثقافة الشرق فأنتجت فلسفة ذات طابع خاص، طابع التقى فيه الغرب بالشرق، فأنتج فكرًا لا هو باليوناني الخالص ولا هو بالشرقي البحت، حمل فيه الإغريق إلى الشرق شيئًا من الفلسفة والعلم، ولقح يه الشرقيون حضارةَ الإغريق بشيء من روحانية الشرق ودياناته، بل وأساطيره و سحره وخرافاته!

ولقد كان تأثير "الروح الشرقي" على الفلسفة اليونانية في ذلك العصر هائلاً حقًا، وجاء عكس كل "الأحلام الإمبراطورية" للإسكندر الأكبر، الذي حلم بغزو الشرق ونشر الحضارة اليونانية والفكر اليوناني في بلاد "البرابرة" ( كما يحلو لليونان أن يصفوا غيرهم ظلمًا واستكبارًا!)، فما كان من هؤلاء إلا أن يفاجئوا الإسكندر المنتصر عسكريًا بهزيمة مدوية في مجال الفكر والتحضر، حتى كاد الفكر اليوناني أن يرفع رايةَ الاستسلام للروح الشرقي المتطلع دومًا إلى عالم السماء، والروحانيات، والأخلاقيات. لقد غزت بلادُ الشرق بلادَ اليونان وليس العكس، وانتصر المنهزمون عسكريًا انتصارًا "حضاريًا"، ويا له من نصر!

وليس أدل على ذلك من أن الفلسفة قد حلت محل الدين، في ذلك العصر المضطرب، سياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا، وروحيًا، فاتخذت لنفسها غايةً واحدةً، ووحيدةً، ألا وهى تحقيق خلاص الإنسان من شرور هذا العالم وتحقيق سعادته، وهي، بالفعل، غايةً أخلاقيةً سامية ، ولكنها غايةٌ عمليةً شرقية بامتياز؛ حين أصبحت الفلسفة مجرد خادم مخلص للأخلاق الفردية.

ومع ذلك لم تخل الفلسفة الهللينستية- من وجهة نظرنا- من لمحات الأصالة، بل والابتكار والعبقرية؛ صحيح لم تبلغ ما بلغته الفلسفة من مجدٍ في العصر الهلليني، ولكنها لم تغب عنها الأصالة غيابًا مطلقًا، كما يتصور بعضُ الباحثين في ذلك العصر؛ بل لو افترضنا وجود سقراط وأفلاطون وأرسطو في ذلك العصر ما أنتجوا شيئًا أكثر مما أنتجه أبيكورس، وزينون، وبيرون، وأفلوطين، وغيرهم من فلاسفة العصر الهللينستي؛ ولاستجابوا لنفس التطلعات، ولحققوا النتائجَ ذاتها، التي حققها الفلاسفةُ الهللينستيون، لأن هؤلاء الأخيرين لم يفعلوا شيئًا سوى أنهم استجابوا لروح عصرهم ولبوا "نداء الحقيقة" الخاص بعصرهم، ولم يكن "نداء الحقيقة" في عصرهم هو نفسه ذات النداء في العصر الهلليني، فلكل عصر "نداء حقيقته" الخاصة به، ولكل فيلسوف "استجابته"، لذلك النداء حسب حاجات عصره، لأن كل فيلسوف هو- ببساطة- ابن عصره.

 إن قصة الفلسفة بعد أرسطو ليست قصة انهيار، بل هي قصة بناء فكري جديد، وفلسفة من نوع آخر، نوعٍ مختلف عن ذلك النوع الذي ألفناه عند أفلاطون وأرسطو.

ومن الظلم لذلك النوع من التفكير الفلسفي أن نطالبه بأن يكون صورة تشبه ما جاء به صفاءُ وهدوءُ أفلاطون وأرسطو، في عصر بالغ الاضطراب والتفكك السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وإن لم يخلُ( متفقين في ذلك مع وولتر ستيس) من بعض الطنطنة والتهور، أو من بعض الأفكار الكئيبة والسيئة، الخاصة بالسحر والشياطين وأشباه الآلهة، تلك الأفكار التي  ظن وولتر ستيس أن الأفلاطونيين الجدد قد جلبوها من الشرق، مع أنها كانت قابعة في قلب الفلسفة اليونانية الغربية ذاتها (وهذا ما أثبتناه في الجزء الأول من كتابنا في تاريخ الفلسفة اليونانية)، منذ أن كانت الفلسفة اليونانية، من طاليس وحتى أرسطو ذاته!

إن الفلسفة اليونانية في العصر الهللينستي تحتاج إلى إعادة نظر، وهو ما أحاول أن أبذل فيه وسعي في هذا الكتاب، لذا سأسعى إلى بيان ما لها وما عليها دون تعصب لها، أو تعصب عليها، فالتعصب- بجميع أنواعه- مخالف للعقل وللعلم معًا.

 وفي هذا العصر ظهرت التياراتُ الرئيسةُ في الفلسفة الهللينستية: الأبيكورية، والرواقية، والشكِّية، والأفلاطونية الجديدة.

 وكل مدرسة من هذه المدارس اتفقت على غاية واحدة، هى "تحقيق السعادة"، ولكنها اختلفت في الوسائل التي اتبعتها لتحقيق تلك الغاية المنشودة؛ فكانت لـ"الأتراكسياa)taraci/a"الأبيكـــــــورية،و"الأباثيا apaqia" الرواقية، و"الإيبوخي e)poxh"، عند الشكاك، و"الأكستاسيس e)/kstasij" الأفلوطيني غاية واحدة، هى تحقيق سعادة الفرد، وإن اختلفت المسميات وتعددت وسائل التحقيق، وتباينت المناهج الفلسفية.

 وسوف نخصص لكل مدرسة من هذه المدارس الأربع فصلاً خاصًا لكل منها. وعلى ذلك سوف نقسم هذا الكتاب إلى خمسة فصول:

الفصل الأول: المدارس السقراطية الصغرى

الفصل الثاني: المدرسة الأبيكورية

الفصل الثالث: المدرسة الرواقية

الفصل الرابع: المدرسة الشكِّية

الفصل الخامس: المدرسة الأفلاطونية الجديدة

دكتور

شرف الدين عبد الحميد

جامعة سوهاج  2018م

 

([1])  راجع المقدمة، د.شرف الدين عبد الحميد: الفلسفة اليونانية في العصر الهلليني، قبل سقراط.

([2])  لكن الفترة الهلنستية، في التاريخ اليوناني العام، هي تلك الفترة الممتدة من وفاة الإسكندر عام 323 ق.م إلى نهاية حكم كليوباترا في مصر عام 32 ق.م. وعلى أية حال فإن الفكر لا يعترف بالحدود الزمنية الحاسمة القاطعة.