دستور مصر لسنة 1883م

التعليم -لاشك أن ما أحاط بدستور 1923 من صراع ومعارك كان المحور الأساسى لنضال المصريين لمدة تزيد على ثلاث عقود من الكر والفر، ما بين إلغاء الدستور ثم إعادته، ثم إلغائه مرة أخيرة فى 10 ديسمبر 1952 بواسطة مجلس قيادة الثورة بعد اقل من 5 شهور من بيان الثورة الذى ألقاه بصوته "أنور السادات" ليعلن فيه إحترام هذا الدستور. لم تعرف مصر الحديثة الدستور قبل 1923 إلاّ فيما يمكن تسميتة بجنين دستورى عام 1982 عرف ب"دستور العرابيين" والذى تم فرضه على الخديوى توفيق إبان الثورة العرابية ويعطى سلطة الرقابة والتشريع لمجلس النواب على الحكومة الممثلة فى مجلس النظار( الوزراء)، وإعتمد مبدأ أن الأمة مصدر السلطات ولكنه أعطى "الخديوى" تمثيل هذه الأمة أى أعطاه سلطات مطلقة، ويعتبر هذا الدستور قاصرا لأنه لم يفصّل الحريات العامة والحقوق الأساسية للمواطنين، وصدر هذا الدستور فى 7 فبراير 1882 وانتهى بدخول الإنجليز الى مصر فى نفس العام قبل أن يتم تطبيقه أو إنتخاب مجلس جديد للنواب. وبمجرد ما وطد الإحتلال الإنجليزى أقدامه فى مصر حتى أصدر العديد من القرارات التى تمكنه من السيطرة التامة على مقاليد الأمور، أولها إيقاف العمل بدستور 1982 وإستبداله فيما بعد بما عرف ب"القانون الأساسى" الذى تم بموجبه تشكيل مجلس شورى القوانين من 30 عضوا 14 منهم بالتعيين احدهم رئيس المجلس وأحد الوكيلين، كما قرر الإحتلال حل الجيش المصرى وتكوين جيش نظامى لا يزيد عدده عن 18 ألف بقيادة إنجليزية خالصة، وبسبب موازنات معينة أبقى التبعية الصورية لمصر للسلطان العثمانى، بينما وجود قوات الاحتلال يجعل السيادة الفعلية لبريطانيا… و فى عام 1883م تم تعيين أول معتمد بريطانى فى مصر و هو اللورد كرومر، الذى بدا فى استخدام سياسة القبضة الحديدية فى حكم البلاد مما أدى الى تصاعد الاحتجاجات، و بدات قوى الحركة الوطنية فى التصدى الاحتلال بقوة. كماعمد الإحتلال الى تدمير الصناعة المصرية الوليدة وفتح الأبواب لإستيراد السلع من بريطانيا، وعمد أيضا الى تحويل مصر لمزرعة للقطن وذلك للوفاء بإحتياج مصانع النسيج بيوركشاير ولانكشاير، وتم تبوير الحياة السياسية المصرية بعد تصفية الثورة العرابية ومحاكمة قادتها ونفيهم خارج البلاد وتشويههم، حتى بدأت الحركة الوطنية تنتفض رويدا رويدا من تحت التراب مع بدايات القرن العشرين مع ظهور قيادات شابة جديدة على رأسها "مصطفى كامل". فى بدايات القرن الجديد بدأ عود الحركة الوطنية يشتد، وظهرت كثير من الصحف وأنشأ الكثير من الأحزاب، وتمت الدعوة الى إقامة الجامعة المصرية، والتف الشعب المصرى ثانية وراء قياداته الوليدة مطالبا ب"الجلاء والدستور". قام الشعب المصرى بثورته الكبرى فى 1919 و شملت جميع انحاء القطر من مدن وقرى ونجوع، وضمت جميع الطبقات والفئات من كبار الملاك والرأسماليين والعمال والفلاحين والطلبة والنساء، وتوحد فيها عنصرى الأمة مسلمين وأقباطا تحت شعار "الدين لله والوطن للجميع"، … و قد كانت الفترة من سنة 1919 و حتى 1923 فترة شديدة التميز تبدت فيها روح النضال و التوحد بين عناصر الأمة فى مواجهة القهر المتمثل فى الاحتلال، و لم تكن الوحدة الوطنية مجرد شعارات و لكنها كانت واقعا عمليا ملموسا… كانت ثورة 1919 ثورة شعبية بمعنى الكلمة و قد شملت القاهرة و مدن الأقاليم، و قامت فيها المظاهرات لكل فئات الشعب من طلبة و عمال و فلاحين، و اشتبك الثوار مع البوليس، الذى كان يقوده الضباط الانجليز، و قطع الثوار خطوط السكة الحديد و خطوط التليفونات، وإستخدم فيها الإحتلال أبشع أساليب العنف من إعدامات فى الميادين وإحراق للقرى وإطلاق الرصاص الحى على المتظاهرين ولكن إنتصرت فى النهاية إرادة الشعب وإضطر المحتل صاغرا الى إلغاء الحماية وإصدار تصريح 28 فبراير 1922 بإعتبار مصر دولة حرة مستقلة ذات سيادة (مع وجود التحفظات الأربعة الشهيرة) ، وليرحل الإحتلال من قلب المدن الى قاعدته فى منطقة القناة، ويبدأ عصر جديد مع صدور دستور 1923. شكلت الحكومة "لجنة الثلاثين" لوضع الدستور، من أهم الشخصيات المصرية المعروفة في ذلك الوقت. قد استبعد الملك فؤاد ـ السلطان فؤاد في ذلك الوقت ـ من هذه اللجنة أهم الشخصيات من حزب الوفد، مما دعا زعيم الحزب ـ سعد زغلول ـ إلى إطلاق وصف "لجنة الأشقياء" عليها، بينما كان مطلبه بأن تضع الدستور جمعية نيابية تأسيسية منتخبة ، وإن أصبح الوفد، بعد ذلك، أكثر الأحزاب تمسكاً بالدستور ودفاعاً عنه، وارتبط اسم الوفد فيما بعد بالصراع مع الملك من أجل حماية الدستور، وقد أعلنت اللجنة التى وضعت الدستور تشكيل حزب يمثلها هو "حزب الأحرار الدستوريين" للدفاع عن هذا الدستور. صدر الدستور بالأمر الملكي رقم 42 لسنة 1923 في 19 إبريل/ نيسان سنة 1923م، بمقدمة جاء فيها: (ولما كان ذلك لا يتم على الوجه الصحيح إلا إذا كان لها نظام دستورى كأحدث الأنظمة الدستورية فى العالم وارقاها تعيش فى ظله عيشاً سعيداً مرضياً وتتمكن به من السير فى طريق الحياة الحرة المطلقة ويكفل لها الاشتراك العملى فى إدارة شئون البلاد والاشراف على وضع قوانينها ومراقبة تنفيذها ويترك فى نفسها شعور الراحة والطمأنينة على حاضرها ومستقبلها مع الاحتفاظ بروحها القومية والإبقاء على صفاتها ومميزاتها التى هى تراثها التاريخى العظيم) وقد تبنى هذا الدستور ما يعرف "بالنظام الملكى الدستورى البرلماني"، وبلغت مواد هذا الدستور 170 مادة نظمت وضع الدولة المصرية في مادة واحدة، وحقوق المصريين وواجباتهم في 21 مادة، والملك في 24 مادة والوزراء في 15 مادة ومجلس الشيوخ في 7 مواد ومجلس النواب في 7 مواد والسلطة القضائية في 7 مواد ومجالس المديريات والمجالس البلدية في مادتين والمالية العامة في 11 مادة والقوات المسلحة في 3 مواد وأحكام عامة في عشر مواد بالإضافة لأحكام ختامية ووقتية. ويعد دستور 1923 أول دستور تناول بالتفصيل العرش وسلطات الملك والوزراء ، و تناول أيضاً قضايا الحقوق والحريات العامة، كما تناول مختلف القضايا التي تتناولها الدساتير الحديثة، ويحسب لدستور 1923 أنه سعى إلى تقليص سلطات الملك وتقوية مركز رئاسة الوزراء، ويشير إلى ذلك نص الدستور على وجوب توقيع مجلس الوزراء والوزراء المختصون لأجل نفاذ توقيعات الملك في شؤون الدولة (مادة 60). ومن ناحية أخري فقد أعطي الدستور السلطة التنفيذية ممثلة بالملك حق التدخل في سير عمل البرلمان عن طريق دعوة البرلمان للانعقاد وفض ا لدورة البرلمانية وتأجيل انعقاد البرلمان ومنحها سلاحا مهما لمواجهة المسئولية الوزارية وهو حق حل البرلمان وان كان قيدها فى الدعوة لإنتخابات عامة خلال 60 يوما من قرار الحل، وهذا الحق الذى تعسف الملك فؤاد ومن بعده الملك فاروق كثيرا فى إستخدامه. كما أن الدستور أساسا كما ظهر فى الأمر الملكى كان فى شكله منحة من ملك البلاد الى شعبه، حيث يبدأ هذا الأمر بعبارات (نحن ملك مصر ..........بما أننا مازلنا منذ تبوأنا عرش أجدادنا وأخذنا على أنفسنا أن نحتفظ بالأمانة التى عهد الله تعالى بها الينا نتطلب الخير دائماً لأمتنا بكل ما فى وسعنا ونتوخى أن نسلك بها السبيل التى نعلم أنها تفضى إلى سعادتها وارتقائها وتمتعها بما تتمتع به الأمم الحرة المتمدينة)، وكأن مصر قد وهبها الله له ولآبائه وأبنائه من بعده يتحكم فيها كيفما شاء. ظلت الحياة السياسية فى مصر لسنوات طويلة بعد صدور الدستور صراعا بين إرادتين، إرادة الملك من جهة فى محاولاته المستمرة للعدوان على الدستور وفرض إرادته بالمخالفة له، والحركة الوطنية بقيادة حزب الوفد فى تصديها لمحاولات الملك، وهناك حوادث شهيرة فى التاريخ على هذه الأشكال من الصدام، وكان السيناريو المتكرر هو أن يصطدم الملك بحكومة الأغلبية، فيلجأ الى حل البرلمان وإقالة الحكومة، والدعوة لإنتخابات جديدة يتم تزويرها لصالح احزاب الأقلية، ليعود الشعب للثورة ضد الحكومة فتسقط، ويعود الوفد للحكم بإنتخابات جديدة، وهكذا.... على أن أكثر هذه التجارب مرارة كانت السنوات ما بين 1930 و1935 حيث أصدر الملك فؤاد أمراً ملكياً بإبطال دستور 1923 م وإعلان دستور 1930م الذي أعدته حكومة إسماعيل صدقي باشا وذلك لتقوية سلطات الملك علي حساب سلطة البرلمان، وقد إعتمد الملك فى قراره هذا على حجة مفادها أن دستور 23 وضع إستلهاما من الدساتير الغربية و أن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في مصر لا تشبه ما عليه الدول الأوروبية ومن ثم فدستور 23 لا يصلح للأوضاع المصرية، وقد ظل هذا التجاذب الدستورى مستمرا حتى الآن بين نمطين، أحدهما ليبرالى يعمل على تعزيز الحياة البرلمانية والآخر سلطوى ينحو الى تغليب النظام الرئاسى وتغليب السلطة التنفيذية، فالشكوى من الحياة الدستورية في ظل دستور 1923 لم تكن راجعة إلى عيوب في الدستور في ذاته بقدر ما كانت ناشئة عن مخالفة أحكام الدستور والاعتداء عليه،. ومع زيادة الرفض الشعبي لدستور صدقي وظهور بوادر الحرب العالمية الثانية، رأت سلطات الاحتلال البريطاني ضرورة الاستجابة لهذه المطالب الشعبية وإعادة دستور 1923، حتى تضمن استقرار الأوضاع في مصر في حالة قيام الحرب العالمية. وهكذا أعيد دستور 1923 من جديد في 1935. فى الختام أقول لقد دفع المصريين ثمنا غاليا من كفاحهم ودمائهم دفاعا عن هذا الدستور، وطلبا للديموقراطية التى يؤطرها ، ولعلنا ما زال يتردد فى مسامعنا مظاهرات الطلاب فى الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضى وهم يهتفون " عاش دستور 23 "