إن دراسة السلوك التنظيمي في المدرسة والإبحار في جوانبه المتعددة هو نوع من الدخول في تجربة أو تجارب مثيرة، كما إنه محاولة لتلمس معاناة المعلمين وكافة العاملين بالمدرسة وطموحاتهم وهواجسهم نحو بيئة المدرسة بكل ما تتضمنه هذه البيئة من صراعات ومؤثرات داخلية وخارجية، لذلك فإنه لفهم وتحليل وتفسير سلوكيات المعلمين وكافة العاملين واتجاهاتهم وقيمهم داخل المدرسة ومن ثم إمكانية التنبؤ بها، لابد من التعايش مع هؤلاء المعلمين وكافة العاملين بالمدرسة والخوض في تجاربهم اليومية ضمن سياقها التنظيمي.

 إن تجارب وآراء كل معلم أو موظف إداري – الحديث هنا في السياق التنظيمي – تختلف بلا شك عن تجارب المعلمين أو الموظفين الإداريين الآخرين وهي أيضاً تتصف بالتغير المستمر وذلك تبعاً لتزايد الخبرة وتنوع الوظائف التي يمارسها المعلم أو الموظف الإداري ونتيجة لتأثير وتداخل العلاقات مع زملاء العمل بالمدرسة، والأبعد من ذلك أنها تتأثر بالحراك والتفاعلات الإنسانية داخل المدرسة وبمكوناتها الثقافية المتعددة، من هنا يبدو أن كل مدرسة تحوي بداخلها عوالم ثرية وتجارب غنية ورؤى متباينة، ومعايشة هذا التنوع – من أجل التأمل والبحث والتقصي للتجارب الإنسانية وتفاعلاتها – يمهد لرؤية واقعية لهذا الحراك المتجدد.

والسلوك التنظيمي يتعلق بدراسة سلوك واتجاهات وأداء المعلمين وكافة العاملين بالمدرسة في وضع تنظيمي معين، ودراسة أثر المدرسة على إدراك ومشاعر وتصرفات المعلمين وكافة العاملين، وتأثيرات البيئة المحلية على المدرسة ومواردها البشرية وأهدافها وكذلك تأثيرات المعلمين وكافة العاملين على المدرسة وفعاليتها.

كما أن السلوك التنظيمي هو المعادلة الشاملة لفهم سلوك المعلمين وكافة العاملين بالمدرسة سواء كانوا أفراداً أو جماعات صغيرة أو أفراداً كثيرين كوحدة شاملة ومتكاملة، وكذلك تفاعل المدرسة مع بيئتها المحلية – المؤثرات والعوامل السياسية والاقتصادية والتقنية والاجتماعية والثقافية والحضارية – ومع سلوك المعلمين وكافة العاملين بها وما يحملونه من مشاعر واتجاهات ومواقف ودوافع وتوقعات وجهود وقدرات، ... الخ، بمعنى أدق ومختصر السلوك التنظيمي يكون نتاجاً لتفاعل المتغيرات الإنسانية مع المتغيرات التنظيمية (سلوك المدرسة والعوامل المؤثرة الأخرى).

لذلك وفي ظل هذه المتغيرات والأزمات المتعددة التي تحيط بالمدارس فإن الحاجة لعلوم السلوك التنظيمي ومجالاته البحثية تعد أولوية داعمة للبحث العلمي ووسيلة ضرورية لتطوير مفاهيمه ونظرياته من جانب، وتمثل محور العملية التنظيمية في كافة المدارس وركيزة لا غنى عنها من جانب آخر، وهذا يدعونا للقول بإن علوم السلوك التنظيمي وتطبيقاته المتعددة تطرح رؤى وحلولاً للقضايا والإشكاليات المتباينة التي أصبحت سمة بارزة لبيئة المدارس المعاصرة.

فالباحث في مجال الثقة التنظيمية Organizational Trust  مثلاً – وهو أحد المجالات الحيوية الحديثة تحت مظلة السلوك التنظيمي- يجد الثراء المعرفي الذي يركز على مدى اختلال العلاقة بين القيادات المدرسية والمعلمين وكافة العاملين بالمدرسة ودوره في تغيير تصوراتهم وقيمهم وسلوكياتهم تجاه بعضهم البعض، وهذا ينعكس بلا ريب على أدائهم الفردي ومن ثم الأداء الكلي للمدرسة. لقد أكدت العديد من الدراسات والبحوث الحديثة أن فقدان الثقة التنظيمية أو انخفاضها ينمي الاتجاهات السلبية نحو الزملاء ونحو بيئة العمل بشكل عام، وفي المقابل زيادتها يدعم شعور المعلمين وكافة العاملين بانتمائهم للمدرسة ويوثق ولائهم لأهدافها. الأمر الأكثر دلالة هنا هو أن الاهتمام بخلق وتنمية الثقة داخل المدارس بلا شك يعد عاملاً رئيساً في تطور المدرسة وداعماً لاستقرار العلاقات التنظيمية داخلها.

ويمثل ظهور مصطلح الولاء التنظيمي تحولاً كبيراً في سياسة إدارة الموارد البشرية في العصر الحديث، ولعل ذلك ما دفع والتون Walton إلى التأكيد على ذلك في كتابه بعنوان "من السيطرة إلى الولاء" والذي نستخلص منه أهمية اعتماد المدارس على استراتيجية الولاء، بدلاً من الاعتماد على استراتيجية السيطرة التقليدية التي تقوم على رقابة الإدارة المدرسية المستديمة المعلمين وكافة العاملين بالمدرسة، كما أكد أن ضمان ولاء المعلمين وكافة العاملين يكون بإدماجهم في المدرسة وإشراكهم في وضع أهدافها والعمل على تحقيقها، ومنحهم مزيد من المسئوليات والصلاحيات.

ويعد سلوك المواطنة التنظيمية أحد السلوكيات التي تمارس في البيئة المدرسية، وهو إحدى المفاهيم المؤثرة في السلوك الإنساني، والذي بدوره يمكن أن يكون ذو أثر بالغ على نجاح العمل من عدمه، وبالنظر لنجاح أو فشل المدارس في العمل سنجد أن جودة العمل وازدهاره مرتبط بإيجابية المعلمين وكافة العاملين بالمدرسة وتبنيهم سلوك المواطنة التنظيمية، ومرتبط أيضاً بالتشجيع عليه.

كما أن العدالة التنظيمية هي السبيل لنجاح المدارس والحفاظ على الرضا الوظيفي للمعلمين وكافة العاملين بالمدرسة، والاستمرار فيها، وذلك من خلال إدراكهم للإنصاف في أسلوب معاملة القيادات المدرسية لهم، وللمساواة عند مقارنة جهودهم المبذولة، ومردوداتهم بجهود زملائهم، ومردوداتهم داخل المدرسة وخارجها.

كما أصبحت الصحة التنظيمية من المفاهيم الادارية التي تركز على أن تكون هنالك علاقات اجتماعية فعالة بين المعلمين وكافة العاملين بالمدرسة، وفي نفس الوقت تكون هناك إدارة مدرسية فعالة قادرة على عمليات التخطيط وكافة العمليات الادارية والفنية بما يعزز من قدرتها على التكيف مع البيئة المحيطة لزيادة قدرتها على تحقيق أهدافها التعليمية.

 والثقافة التنظيمية هي مجموعة القيم والمعايير والسلوكيات والتصرفات والاشارات وأساليب التعامل والمعاملة التي تصدر عن القيادات المدرسية والمعلمين وكافة العاملين بالمدرسة ويلمسها التلاميذ أو الطلبة وأولياء الأمور وأعضاء المجتمع المحلي الذي تتواجد فيه المدرسة، سواء كان داخل أوقات العمل الرسمي أو خارجه، وعليه فانه يجب أن تصبح القيادات المدرسية المعلمون وكافة العاملون بالمدرسة ومع الوقت يشعرون ويعرفون ويعاملون ويتعاملون بثقافة وقيم وسلوكيات مدرستهم وليس كما اعتادوا عليه قبل أن يصبحوا أعضاء في هذه المدرسة.

والفعالية التنظيمية يقصد بها مدى تلبية المدرسة لاحتياجات التلاميذ أو الطلبة وأولياء الأمور ومنظمات المجتمع المدني المختلفة والتي ترتبط بأنشطة المدرسة بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن ثم تعد الفعالية بمثابة مقياس كيفي يتم صياغته من قبل القائمين على عملية تقييم وقياس الأداء، وهم في هذه الحالة أصحاب المصالح المختلفة، ذلك أن الوفاء بالمطالب المختلفة للمقيمين يعني أنه قد تم أخذ كافة المطالب (المتصارعة وكذلك المتوافقة) في الاعتبار عند التقييم.

كما يتطلب نجاح المدارس في تحقيق أهدافها توافر عدد من المتغيرات التنظيمية بشكل سليم من أهمها المناخ التنظيمي، إذ يعكس المناخ التنظيمي في المدرسة شخصيتها، كما يتصورها المعلمون وكافة العاملون فيها ويعتبر أيضاً من محددات السلوك التنظيمي فهو يؤثر في الرضا الوظيفي للمعلمين وكافة العاملين بالمدرسة وفي مستوى أدائهم، وتزداد أهمية وجود مناخ تنظيمي صحي في ظل التغيرات البيئية السريعة التي تعيشها المدارس والمنافسة الشديدة والدخول إلى العولمة والتغير التكنولوجي السريع، مما يفرض على المدرسة الإبداع والتطوير المستمر، إذ إن الإبداع هو العملية التي يكمن وراءها أي تقدم.

ومن هنا تأتى أهمية هذا الكتاب باعتباره مرجعا ضرورياً في الإدارة المدرسية يجمع بين الأصول النظرية والعلمية من ناحية وبين الجوانب التطبيقية والممارسات العملية من ناحية أخرى.

ونظرا للأهمية الكبرى التي تلعبها المدرسة كمنظمة تربوية في المجتمع، فإنها تحتاج إلى من يوجه قياداتها المدرسية والمعلمين وكافة العاملين فيها ويشرف عليهم، وينسق جهودهم، ويعمل على تحسين أدائهم من أجل تحقيق الأهداف المرسومة لهذه المدرسة، والكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ يضم ثمانية فصول هي:

الفصل الأول: الثقة التنظيمية

الفصل الثاني: الولاء التنظيمي

الفصل الثالث: المواطنة التنظيمية

الفصل الرابع: العدالة التنظيمية

 الفصل الخامس: الصحة التنظيمية

الفصل السادس: الثقافة التنظيمية

الفصل السابع: الفعالية التنظيمية

الفصل الثامن: المناخ التنظيمي

ونأمل أن يسد هذا الكتاب ركناً من المكتبة العربية بصفة عامة والمكتبة المصرية بصفة خاصة، فيما يتعلق بالسلوك التنظيمي في المدرسة، وفى النهاية ندعو الله سبحانه وتعالى أن ينفع به جيل القراء من الطلاب بكليات التربية – معلمي المستقبل – والدارسين والباحثين في مجال الإدارة التعليمية.