بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين ، حمدًا يليق بجلال ذاته وعظيم سلطانه ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.  أما بعد:-

فيدور مفهوم "الدِّين" في اللغة حول معاني الخضوع ، والانقياد ، والالتزام ، والاعتقاد ، والسيرة ، والعادة. ويشير في الاصطلاح إلى مجموعة العقائد والتشريعات والطقوس وقواعد السلوك التي تؤمن بها جماعة بشرية معينة. فثمة عناصر ثلاثة أساسية تشكل فيما بينها المحتوى الديني ، أهمها جملة التصورات الذهنية أو المعتقدات حيال الخالق وعلاقته بالكون وموضوع الجزاء ومسائل الغيب ، وهي بمنزلة البنية التحتية للدين، وهناك ركن التشريعات والأحكام العملية التي تنظم العلاقة فيما بين البشر من ناحية أو تلك التي تعنى بمنظومة الطقوس الدينية أو شعائر العبادة للخالق من ناحية أخرى ، فضلاَ عن بعض المبادئ النظرية التي تحكم قواعد السلوك والأخلاق.    

وتحتل الديانة اليهودية مكانًا بارزًا في تاريخ الأديان ، فهي أقدم الديانات التوحيدية ، حيث تعود إلي بني إسرائيل          قوم موسى (عليه السلام) ، والتي انتظمت أصولها ومبادئها التشريعية في كتابها المقدس المعروف بــ" التوراة" ، والذي يُنسب إلى موسى نفسه. وقد عُرِف بنو إسرائيل ، فيما بعد ، بــ" اليهود" نسبة إلى "يهوذا" ، ذلك الشطر الجنوبي من مملكة داود وسليمان (عليهما السلام)، والذي أصبح كيانًا مستقلاً وعاصمته (أورشليم) عقب انقسام المملكة بعد وفاة سليمان عام 932 ق. م. ومنذ ذلك الحين قطعت اليهودية في مسيرتها التاريخية رحلة طويلة عبر آلاف من السنين حتى تحوَّرت من الشريعة الموسوية إلى اليهودية بصيغتها الحالية.

وإذا كان للدين أثره العميق في استقرار حياة الإنسان على الأرض بما يحويه من عقائد وشرائع تجنِّب الإنسانية مخاطر الضلال والقلق والاضطراب ، وتحقق لها التوازن بين متطلبات الروح ومتطلبات الجسد ، فإن اليهودية – في الواقع – لم تؤثر في تشكيل وعي جماهير اليهود وصياغة الواقع/التاريخ اليهودي بقدر ما أثَّر اليهود أنفسهم في صياغة عقيدتهم الدينية وتوجيه شريعتهم برمتها لصالح الفرد اليهودي. فمثلاً باتوا يؤمنون بأنهم شعب الله المختار ، وراحوا يفصلون أنفسهم عن بقية بني البشر، ويميزون في قوانينهم بينهم وبين "الأغيار" ، حتى أن الحركة الصهيونية الحديثة ، رغم طابعها العلماني ، قد استعانت بالدين اليهودي وطوَّعته لتحقيق فكرها القومي ، فحوَّلت فكرة "الخلاص" الدينية إلى خلاص سياسي خلق ما عُرف بالكيان الصهيوني أو دولة إسرائيل.

ومن ثم كانت لليهودية أهمية خاصة في فهم التاريخ اليهودي ، إذ اختلط الدين بالتاريخ عند بني إسرائيل إلى حد أن فهم كل منهما لا يتم إلا من خلال المعرفة بالآخر.

ونظرًا لأن المكون الديني (عقائديًا وتشريعيًا) أرحب من أن يستوعبه مثل هذا الكتاب ، بل حتى ليصعب الإحاطة به من خلال مصنف واحد ، فقد آثرت اختيار بعض المسائل كنماذج مهمة لموضوعي العقيدة والتشريع أوردتها في فصول ، وقبل الشروع في تلك الفصول كان لزامًا التعرض لدراسة مصادر الديانة اليهودية بوصفها الوعاء والمورد الأساسي للمادة الدينية ، كما كان من الأهمية بمكان أن أتبع ذلك بتناول أشهر الفرق والمذاهب اليهودية قديمها وحديثها ؛ طالما أننا لسنا بإزاء يهودية واحدة مطلقة ، وعلاوة على ذلك فلم يفوتني التمهيد لذلك كله بتوضيح وشرح لبعض المفاهيم الأساسية المتداخلة والتي تشير إلى العنصر اليهودي.

وعليه جاء الكتاب ، بعد هذه المقدمة ، على النحو التالي:-

- تمهيد: مفاهيم ودلالات

- الفصل الأول: مصادر الشريعة اليهودية

- الفصل الثاني: الفرق والمذاهب اليهودية

- الفصل الثالث: "الشعب المختار" في العقيدة اليهودية 

- الفصل الرابع: "الإله" في العقيدة اليهودية 

- الفصل الخامس: التشريعات العقابية في اليهودية

- الفصل السادس: شريعة "القِصاص" في اليهودية

وأخيرًا أرجو لهذا الكتاب أن يكون بمنزلة جولة سريعة تتيح للقارئ التعرف على أهم معالم الديانة اليهودية.

والله من وراء القصد

د. خالد مصطفى هاشم