العهد القديم

محتواه ، ومضامينه الأدبية

 

أولاً: محتوى العهد القديم

العهد القديم هو المصدر الأساسي للديانة اليهودية ، وهذه التسمية هي التسمية الشائعة لأسفار اليهود المقدسة ([1]). ويُعرف ، كذلك ، بالتناخ ( תנ"ךְ )، وهي كلمة عبرية مركبة من الأحرف الأُول من كل قسم من أقسامه: תורָה  توراه (التوراة)، و נְבִיאִים  نبييم (الأنبياء) ، و כְּתובִים كتوبيم (الكتب). ومواضيع الأسفار مختلفة، فإن اُعتبر سفر التكوين قصصيًا بالأولى، فإن سفر اللاويين تشريعيًا بالأحرى، أما "المزامير" فسفرٌ تسبيحي، و"دانيال" رؤيوي ، و"الجامعة" فلسفي.

وثمة خلاف بين الطوائف الدينية في ترتيب أو الاعتراف بقانونية بعض الأجزاء، على سبيل المثال فإن طائفة الصدوقيين اليهودية المنقرضة كانت ترفض الاعتراف بغير أسفار موسى الخمسة (التوراة)، وكذلك حال السامريين؛ أما يهود الإسكندرية فأضافوا ما يُعرف باسم الأسفار القانونية الثانية ([2]) ، والتي قبلها لاحقًا الكاثوليك والأرثوذكس ، في حين رفض يهود فلسطين والبروتستانت الاعتراف بأنها كُتبت بوحي.

ويُقسّم العهد القديم في التقليد اليهودي إلى التوراة، وهي مكونة من خمسة كتب تُنسب إلى موسى ، يليها أسفار الأنبياء ، ثم الكتابات. وفيما يلي أقسامه ومضامينه بشيء من التفصيل([3]).

 

( أ ) التوراة  תורָה

التوراة بالعبرية تعني التعليم أو التوجيه ، ويُطلق عليها أسفار موسى الخمسة. وتتكون من:

 1- سفر التكوين

يسمى السفر في العبرية ( בְּרֵאשִׁית : بريشيت)، والتي تعني حرفيًا في اللغة العربية: في البدء، وهما الكلمتان الأولى والثانية من السفر. "في البدء، خلق الله السماوات والأرض".[تك 1:1] وحينما ترجم أحبار اليهود الكتاب إلى اللغة اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد، في الترجمة المعروفة باسم الترجمة السبعينية ، اختاروا اسم الأصل أو تكوين في الإشارة إلى «تكوين» السماء والأرض، غير أن التقليد اللاحق اكتفى بالإشارة إلى كل سفر بالكلمة الأولى من العنوان.

يُقسم عادة سفر التكوين إلى حلقتين كبيرتين، أصل الكون والإنسان في الفصول 1-11، وأصل الآباء وأصل جماعة إسرائيل 12-50. والجزء الأول من أصل الكون والإنسان، يتألف من أربعة حلقات صغيرة، الأولى كيف صنع الله الإنسان من التراب وأقامه بين النبات والحيوان، والثانية كيف دخل الشر إلى العالم حينما أصغى الإنسان لأصوات غير صوت الله، وهو ما ينعكس في جريمة القتل الأولى بين قايين وهابيل، والحلقة الثالثة تظهر البشرية التي حاولت أن تؤلف وحدتها في برج بابل بمعزل عن الله ففشلت، وفي الحلقة الرابعة يظهر فساد البشر على الأرض ، فيقضي الله بهلاك البشر بالطوفان ، بينما أنجى نوحًا وأهله ، وأقام عهدًا معه ومن خلاله عبر ذريته مع البشرية كلها، واختار منها إبراهيم ليبارك بواسطتها جميع الأمم.

أما الحلقة الثانية الكبرى فتشرح تكوين شعب إسرائيل، وهي تتألف أيضًا من أربعة حلقات صغرى، الأولى هي إبراهيم، الذي انتقل من مكان إلى مكان، ومن مقدس إلى مقدس، ونال بركة الله، وولد له إسماعيل واسحق، وتختم حلقة إبراهيم بزواج اسحق من إحدى قريباته في بلاد آرام، ومع حلقة صغيرة تالية عن اسحق وريث إبراهيم، تظهر الحلقة الثالثة عن يعقوب، جد الأسباط والملقب "إسرائيل" فمنح الشعب اسمه؛ أما الحلقة الرابعة والأخيرة فهي يوسف في مصر، فيستقبل إخوته وينقذهم من المجاعة، ولن يلبث يوسف أن يموت هو أيضًا تاركًا ذويه في أرضٍ سوف يذوقون فيها العبودية، وسيكون موضوع تحريرهم وإعادتهم إلى "أرض الآباء" موضوع السفر التالي أي سفر الخروج.

وإلى جانب تقسيم سفر التكوين حسب تسلسل مواضيعه، فهناك التقسيم الثاني الذي يعتمد أساسًا على النقد النصي([4])، وفقه اللغة العبرية القديمة وتطورها، والفوارق الإنشائية في النصوص، ويعرّف باسم "التقسيم العرضي" مقابل التقسيم الطولي الخاص بحلقات السفر. ولعل أحد أبرز القضايا التي ساعدت في التأسيس لنظرية التقاليد الأدبيّة، الواسعة القبول بين علماء الكتاب المقدس، هي استعمال ألفاظ جلالة مختلفة، ولاسيّما في الروايات المتوازية، على سبيل المثال فإنّ إحدى روايتي طرد هاجر تستخدم اسم الجلالة (יְהוָה  يِهُوَه) ، والرواية الثانية تستعمل الاسم الشائع للجلالة إلوهيم (אֱלוהִים) ، وانطلاقًا من ذلك أقرَّ النقاد هذين الاسمين لتسمية تقليدين أدبيين مختلفين، التقليد اليهوي ويرمز له (ي)، والتقليد الإلوهيمي ويرمز له (أ)، وإلى جانب هذين التقليدين هناك تقاليد ثالث هو الكهنوتي (ك)، والأقل وضوحًا في سفر التكوين.

ولكل تقليد من التقاليد الثلاثة، ما تميّز به، فإن التقليد اليهوي واقعي وتصويري وغني بالاستعارات، وله إنشاء رواي قصص، ولا يتردد في الكلام عن الله بألفاظ كثيرة الصور والتشابيه، على سبيل المثال: "سمعا وقع خطا الرّب الإله"،[تك 8:3] . إنه يروي خلق الإنسان بأسلوب مجازي تكثر فيه الصور والتشابيه، وبهذه الطريقة يفسّر اليهوي عن إيمانه بالله الذي خلق الإنسان ومنحه الحياة". وفي المقابل، فإنّ الإلوهيمي أشدّ إبرازًا لله بوصفه خالق الكون ومتعالي عنه. أما التقليد الكهنوتي فهو نصوص مرتكزة على تشاريع، ويمتاز إنشاؤه بالتكرار وحصر الأعداد؛ وكمحصلة فإنّ التقليد اليهوي أشدّ اهتمامًا بإبراز العلاقة القائمة بين الله والإنسان، والإلوهيمي أشدّ اهتمامًا بإبراز السمو الإلهي، والكهنوتي أكثر انتباهًا لأمور القانون والعبادة.

 

2- سفر الخروج

يُطلق عليه بالعبرية (שֵׁמות : شِموت) ، ويتحدّث عن كيفيَّة نجاة بني إسرائيل من استبداد وظلم وبطش فرعون مصر واستعباده إياهم، وذلك بقدرة وإرادة الله الذي خصّهم بالرسالة، وأرسل إليهم نبيه موسى ليعظهم ويُعلمهم، فقادهم في رحلةٍ طويلة عبر البراري حتى وصلوا جبل الطور في سيناء، حيث وعدهم الله أرض كنعان (أرض الميعاد)، وأخذ ميثاقهم، ثمَّ أنزل الشريعة على موسى، ليُعلمهم الدين.

تقول الباحثة كارول مايرز في تعليقٍ لها على السفر، أنَّه أكثر أسفار الكتاب المُقدس أهميَّة، فهو على حدّ تعبيرها: يُمثّلُ التفاصيل التوضيحيَّة للهويَّة اليهوديَّة، فيعكس ذكريات ماضٍ مليء بالشقاء والهروب، وميثاق أخذه الله على بني إسرائيل وفضَّلهم بعده على العالمين، وتعاليمه التي بعث بها موسى ليُعلّمهم أسس بناء مُجتمع جديد وكيفيَّة الحفاظ على ديمومته.

أما المضمون الأساسي للسفر وغايته فهو التأكيد على فكرة        "الخلاص" ، أي أن خلاص بني إسرائيل ونجاتهم يأتي من الله وحده: «لا تخافوا انظروا خلاص الرب الذي يصنعه لكم اليوم» (خروج:14/ 13)، وأنه كلّي القدرة وصانع للمعجزات: «لأجل هذا أقمتك لكي أريك قوتي ولكي يخبر باسمي في كل الأرض» (خروج: 9/ 16)؛ « فمن مثلك يا الله معتزًا في القداسة مخوفًا في التسابيح صانعًا العجائب». (خروج:15/ 11).

وينحو العديد من المفسرين حديثًا، بأخذ بعض أحداث السفر بشكل رمزي؛ سوى ذلك، فإن أغلب التشريعات الواردة فيه لم تعد تأخذ على حرفيتها لدى غالبية الطوائف المسيحية واليهوديّة. ففي حين تمسكت بعض الفرق البروتستانتية واليهود الأرثوذكس، بجميع الشرائع، ترى سائر الطوائف، بأن هذه الشرائع تتكلم عن مرحلة تاريخية معينة، وأنه بتطور الأزمان تتطور معها الشرائع، فلا يُؤخذ النص بحرفيته وإنما يؤخذ بغايته.

اعتُبر سفر الخروج أهم أسفار التوراة، فخروج بني إسرائيل من مصر شكل الحدث الذي خَلق فيه الأسباط الاثني عشر، وعلى الرغم من كل الأحداث اللاحقة، كدخول الأرض المقدسة مع يشوع أو إقامة الملكية مع داود، فإن حدث الخروج من مصر وفلق البحر الأحمر، ظل دومًا مرتكز الحياة اليهوديّة عمومًا حتى إن عبارة «الذي أخرجنا من أرض مصر» باتت أحد ألقاب الله الرئيسية في التراث العبري إن لم نقل أحد أسمائه، وهو ما يتجلى في صلوات عيد الفصح اليهودي، حيث يرد إرشاد بأنه على كل امرئ، على مدى لأجيال، أن يعتبر نفسه قد خرج من مصر.

يظهر تأثير سفر الخروج أيضًا في الصلوات والطقوس اليهودية اليومية، كما أنّ له أهمية في تنظيم العشور والصدقات وضريبة خيمة الاجتماع، ومن ثم هيكل سليمان، كذلك فإن السفر يُعتمد عليه في تحديد أيام الصوم اليهودي، والاحتفالات بالأعياد اليهودية، إضافة إلى الحج.

 

 

3- سفر اللاويين

يُسمى بالعبرية ( וַיִּקְרָא : وايِقْرا) ، حيث تعود أصل التسمية إلى مفردة لاوي ، وهو أحد أسباط بني إسرائيل الاثني عشر ، وقد عُهِد إلى هذا السبط شؤون الخدمة الكهنوتية في المجتمع اليهودي بشكل حصري؛ أما في الترجمة المسيحية للكتاب المقدس فيظهر السفر تحت اسم سفر الأحبار.

يستخدم السفر للإشارة إلى الرب لفظ " אֱלוהִים  إلوهيم "، وهي صيغة جمع مفردة " אֱלוהַ  إيلُوَّه" ، وربما استخدمت للتفخيم ، فيرى المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون أن كلمة إلوهيم تعني الإله الأعلى، في وقت كان الاعتقاد بتفريد الإله سائدًا في المجتمع اليهودي. هذا إلى جانب ورود لفظ يهوه ، والذي لم يتحول إلى مصطلح رسمي حتى العودة من سبي بابل.

والسفر هو سفر تشريعي بالأحرى، وليس سفرًا يروي أحداثًا تاريخية، وغالبًا ما ينقل كلام الرب لموسى بشكل مباشر في تنظيم قواعد الديانة اليهودية؛ بعد أن قام موسى بتأسيس خيمة الاجتماع ووضع تابوت العهد داخلها. كما أن أكثر الأمور التي ينظمها السفر ترتبط بالكهنة، ولذلك دُعي باسمهم: كيف يقدم الكاهن الذبيحة؟ وشروط الذبائح من العجل، ومن الغنم أو الطيور، وكذلك القرابين. وينظم السفر أيضًا مهام الكاهن الأعظم للشعب اليهودي، والصفات الواجب أن تتوفر في الكاهن بشكل عام. كما يهتم السفر أيضًا بتنظيم قواعد الشهادة لدى القضاء ، وقواعد النجاسة والطهارة ، وينظم قوائم محرمات الطعام ومحللاتها في الديانة اليهودية ، ويعيد تنظيم قواعد الراحة في السبت، والأعياد المذكورة في سفر الخروج. وينتهي السفر بمجموعة عواقب قد ينزلها الله في حال أخطأ بنو إسرائيل واستمروا في خطئهم. والخلاصة أن غاية السفر تنظيم المجتمع اليهودي القبلي البدائي خصوصًا وظائف الكهنة به.

 

4- سفر العدد

بالعبرية: ( בַּמִדְבָר : بَمِدْبار). وسُمي كذلك لأنه يحتوي تعدادًا سكانيًا لبني إسرائيل بعد سنتين من خروجهم من مصر، وبحسب السفر فإن التعداد تم بناءً على أمر الله لموسى، وكان عدد بنو إسرائيل إثر هذا التعداد يقارب الستمائة ألف شخص، ولا يذكر السفر أسماء جميع المعدودين، إنما أسماء رؤساء العائلات وأفراد عائلاتهم ثم يرتبها حسب الأسباط الاثني عشر. ويستخدم السفر للإشارة إلى الرب لفظ ألوهيم إلى جانب لفظ يهوه.

وغاية التعداد ، كما تظهر في السفر، تنظيم جيش القبائل الإسرائيلية المتنقلة ، وأيضًا تمهيدًا لقسمة الأراضي بين القبائل والأسباط عند الوصول إلى فلسطين، وتنظيم التنقل في الصحراء. كما يختص الفصل الثالث من السفر بإجراء إحصاء خاص لسبط لاوي، سبط الكهنة، في حين أن الفصل الرابع من السفر ينظم عمل كل سبط في خيمة الاجتماع.

لكن السفر يعود كسفر الخروج وسفر اللاويين إلى الناحية التشريعية بدءًا من الفصل الخامس، فيذكر أحكام الخيانة الجنسية بين الزوجين وكيفية التأكد في حال الشك بها، وأحكام النذور، وتنظيم قواعد عيد الفصح ومن يحتفل به.

ويتحول السفر إلى السرد التاريخي بدءًا من الفصل الثالث عشر، فيذكر كيف وصل بنو إسرائيل إلى صحراء النقب وتجسسوا على مدنها وكيف اصطدموا بالعماليق وانتصروا عليهم ، ثم كيف طلب منهم الرب عدم دخول فلسطين من ناحية النقب والاستمرار بالسير ودخولها من الشرق من ناحية أريحا؛ وينتقل لذكر قصة قورح، وعصا يشوع التي اخضرت في إشارة إلى أنه سيخلف موسى في حكم الشعب، ثم ينتقل لذكر لقاء بني إسرائيل المتنقلين مع مملكة آدوم، ومملكة الأموريين، وأخيرًا مملكة موآب جنوب البحر الميت، وهناك أخذ بنو إسرائيل بالزنى مع بنات موآب، ونجسوا خيمة الاجتماع، وعبدوا آلهة وثنية، فحكم الرب عليهم حسب السفر بالموت ، باستثناء يشوع ، وعدم الدخول إلى فلسطين، لكنه يشير أن أبناءهم سيقومون بالدخول.

وتشير أيضًا قصص السفر لأهمية الرئاسة والتنظيم لكيلا تكون جماعة الرب كالغنم التي لا راع لها ، وتبين صدق الله في وعوده ، وأن الله يعاقب من يفعل الإثم ، طويل الروح كثير الإحسان ، يغفر الذنب والسيئة ، لكنه لا يبرئ ، بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء.

 

5- سفر التثنية

يطلق عليه بالعبرية: דְבָרִים  دِباريم . ولكنه دُعي باسم التثنية أو الاشتراع ، ثم دعي باسم تثنية الاشتراع بدءًا من الترجمة السبعينية للكتاب المقدس . ومن الواضح أن أصل التسمية تأت من كونه سفرًا تشريعيًا تكتمل معه الشريعة اليهودية، ولا يمكن فهم أحداث سفر التثنية دون الاطلاع على الأسفار التي سبقتها خصوصًا سفر الخروج وسفر اللاويين.

وكغيره من أسفار العهد القديم الأولى فقد شكك النقاد في صحة نسبته إلى موسى، وأشاروا إلى أن الكتاب ربما قد كُتب في أورشليم خلال عهد الملك داوود أو سليمان نقلاً عن التقليد الشفهي أو بعض الوثائق المكتوبة التي فقدت فيما بعد ، بينما تشير الموسوعة البريطانية إلى نمو تدريجي في النص. ويستخدم السفر للإشارة إلى الرب عبارة إلوهيم ، إلى جانب ورود لفظ يهوه.

يغلب على السفر الطابع التشريعي ، وهو يستذكر في مقدمته ضمن خطبة طويلة لموسى ما حصل مع بني إسرائيل منذ مغادرتهم صحراء النقب حتى وصولهم إلى نهر الأردن من ناحية الشرق. ويبدأ التشريع في السفر بدءًا من الفصل الرابع بالدعوة لمخافة الرب والإخلاص له ، ويذكِّر كاتب السفر بالوصايا العشر وأهميتها في الفصل الخامس ، كما يحذر السفر بشدة من نسيان الله بعد سيطرة بنو إسرائيل على المدن الموعودة في فلسطين ، ويبين ماذا يجب على اليهود أن يفعلوه لدى دخولهم الأرض الموعودة وكيف يتعاملون مع سكانها:      " لا تقطع لهم عهدًا ولا تشفق عليهم ولا تصاهرهم، بنتك لا تعط لابنه وبنته لا تأخذ لابنك، لأنها ترد ابنك من ورائي فيعبد آلهة أخرى، فيحمى غضب الرب عليكم ويهلككم سريعًا؛ ولكن هكذا تفعلون تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم وتحرقون تماثيلهم بالنار لأنك شعب مقدس للرب." [تثنية:7/2-6]

ويجِّدد السفر في الفصل الرابع عشر تحديد محظورات الطعام والشراب ، كما يحض على الإنفاق ويرفض البخل ، ويطلب مساعدة الفقراء ، وينظم طرق التعامل مع العبيد ، ويدعو لإطلاق سراح العبد العبري في السنة السابعة من خدمتهم ، ويعيد التذكير بعيد الفصح وأحكامه ، ويشدد على الابتعاد عن العرافة والرقية أو استشارة الموتى والأرواح.

وينظم السفر قواعد الحرب وحصار المدن، وأحكام تعدد الزوجات، وأحكام الطلاق، وأحكام السرقة، والرهن والقرض ، ويقرر عقوبة الجلد بأربعين جلدة عمومًا في عدد من المعاصي أو المخالفات الدينية ، ويحذر من الأنبياء الدجالين، في حين ينتقل الفصل الثامن والعشرين للمصائب التي ستحل ببني إسرائيل في حال عصوا الشريعة اليهودية، ويذكر السفر عظة رابعة لموسى قدمها للشعب قبيل وفاته، ويذكر تعيين يشوع خلفًا لموسى. ويختم السفر بخبر وفاة موسى بعد أن شاهد أرض فلسطين الموعودة من جبل نبو ، وبالتالي يكون هذا السفر الجزء الرابع والأخير من قصة موسى.

وتنبع أهمية السفر من كونه موجهًا لكافة بني إسرائيل. فإذا كان سفر اللاويين والعدد موجهين للكهنة واللاويين ، ليجدوا فيها الشرائع وطقوس العبادة والأحكام ، فإن سفر التثنية موجه لعموم اليهود ، لذلك يرد فيه الكثير من الإيضاحات والشروح والحث على الالتزام بها.

 

( ب ) الأنبياء  נְבִיאִים

أسفار الأنبياء هي القسم الثاني من أقسام العهد القديم ، وتُعرف بذلك لأن العديد من أسفار هذا القسم يحمل اسم نبي مثل إشعيا، إرميا ...، كما أن أسفارًا مثل يشوع وصموئيل والملوك اهتمت أيضًا بأعمال الأنبياء وأقوالهم. وهي عبارة عن مجموعة أسفار تاريخية تعرض لتاريخ بني إسرائيل بعد دخولهم أرض كنعان واستقرارهم فيها ، وتحكى تاريخ قضاتهم وملوكهم وأيامهم والحوادث البارزة في تلك الآونة. فهي تأتى امتداداً لأسفار "التوراة" ، وتسير في خط تاريخي متصل.

وتنقسم أسفار الأنبياء إلى قسمين:

1- أسفار الأنبياء المتقدمين נְבִיאִים רֵאשׁונִים ، وهي: سفر يشوع ، وسفر القضاة ، وسفرا صموئيل (الأول والثاني) ، وسفرا الملوك (الأول والثاني).  

2- أسفار الأنبياء المتأخرين נְבִיאִים  אַחֲרונִים ، وهي: سفر إشعيا ، وسفر إرميا ، وسفر حزقيال ، ويُطلق عليها كذلك " الأنبياء الكبار".   ثم أسفار " الأنبياء الصغار" ، وعددها اثنا عشر سفرًا ، ولا تشير كلمة "صغار" أنها أسفار قليلة الأهمية، أو أن كاتبيها (الأنبياء) قليلو الشأن، بل تشير تلك الكلمة إلى حجم السفر. وهذه الأسفار هي: هوشع ، يوئيل، عاموس ، عوفديا ، يونان ، ميخا ، ناحوم ، حبقوق ، صفنيا ، حجي ، زكريا ، ملاخي.

وقد تم تقسيم أسفار الأنبياء إلى أنبياء أوائل وأنبياء أواخر طبقًا للمضمون. فأسفار الأنبياء الأوائل تتناول تاريخ جماعة بني إسرائيل من بعد موت النبي موسى (عليه السلام) وقصة دخول كنعان في عصر يشوع. ويتناول سفر القضاة عصر القضاة وما حدث فيه من انحراف عن الديانة الموسوية والسعي وراء العبادات الوثنية. وفي أسفار صموئيل والملوك جاء الحديث عن نهاية عصر القضاة وبداية تأسيس المَلَكية واستقرار جماعة بني إسرائيل لأول مرة في أرض فلسطين في عصري داود وسليمان (عليهما السلام). وتستمر الرواية التاريخية بعد عصر سليمان فتبدأ بذكر انقسام المملكة إلى مملكتين هما: مملكة إسرائيل في الشمال وعاصمتها السامرة، ومملكة يهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشليم.

أما أسفار الأنبياء الأواخر الكبار منهم والصغار فيغلب عليها الطابع النبوي. فالعديد من أقوال الأنبياء الأواخر خطابات تهديد ووعيد لجماعة بني إسرائيل بسبب ما ساد من فساد أخلاقي واجتماعي وديني ومحاولة العودة بهذه الجماعة إلى الديانة الصحيحة.

وقد اشتملت أسفار الأنبياء على بعض الرسالات أو المضامين أهمها ([5]):

- الله محرك التاريخ ، فيعتبر إشعيا أن الإمبراطوريات الكبرى القائمة في زمانه آلات بيد الله (إشعيا10: 5- 15)، وكان هذا فكر بعض الأنبياء أيضًا.

- الله يدعو الناس إلى التوبة ، فهو فعَّال كل حين لإرجاع شعبه إليه. (عاموس 4: 6- 11)

- الأخلاق أساس الدين والمجتمع ، فكان الأنبياء عموماً يشدِّدون على أن سلامة العلاقة بالله تقتضي أن يعيش الإنسان مطيعاً لوصاياه ومقاييسه الأخلاقية، لأن العكس يجعل علاقات الناس بعضها ببعض تختلَ. (عاموس 2: 7- 12).

- خلاص إسرائيل هو مشيئة الله: " وَأَرُدُّ سَبْيَ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ فَيَبْنُونَ مُدُناً خَرِبَةً وَيَسْكُنُونَ، وَيَغْرِسُونَ كُرُوماً وَيَشْرَبُونَ خَمْرَهَا، وَيَصْنَعُونَ جَنَّاتٍ وَيَأْكُلُونَ أَثْمَارَهَا. وَأَغْرِسُهُمْ فِي أَرْضِهِمْ، وَلَنْ يُقْلَعُوا بَعْدُ مِنْ أَرْضِهِمِ الَّتِي أَعْطَيْتُهُمْ» (عاموس 9: 14- 15).

وتعتبر أسفار الأنبياء في التقليد اليهودي هي الأخرى نتاج الوحي الإلهي ، وإن كانت بشكل عام في مرتبة أدنى من أسفار التوراة من حيث القداسة ، فهي كذلك أقوال الرب التي ألقاها في فم أنبيائه ؛ ولذا طالب الأنبياء بنفس الطاعة لأقوالهم. وقد دخلت أسفار الأنبياء ضمن الأسفار القانونية (المقدسة) للعهد القديم في فترة لاحقة على أسفار التوراة؛ حوالي نهاية القرن الثالث قبل الميلاد.

 

( ب ) المكتوبات  כְּתובִים

وهو القسم الثالث من أقسام العهد القديم، والأقل قداسة بين أسفار العهد القديم ، ويُطلق عليه أيضًا " أسفار الحكمة "، وعددها اثنا عشر سفرًا. وهذه الأسفار هي: المزامير ، الأمثال ، أيوب ، نشيد الأناشيد ، راعوث ، مراثي إرميا ، الجامعة ، إستير ، دانيال ، عزرا ، نحميا ، أخبار الأيام الأول والثاني.

سُميت أسفار هذا القسم بأساليب متنوعة؛ فبعضها استمد تسميته طبقًا لمضمونه مثل أخبار الأيام والمزامير. واستمد البعض الآخر تسميته من الكلمة أو الكلمات الأولى التي يبدأ بها السفر ، والتي تدل في نفس الوقت على مضمون السفر مثل: الأمثال ونشيد الأناشيد والمراثي. فضلاً عن مجموعة من الأسفار تستمد تسميتها من البطل الرئيسي للسفر ، والتي تدل في الوقت نفسه على مضمونه ، مثل: أيوب وروث وإستير والجامعة ودانيال وعزرا ونحميا.

وتتنوع الموضوعات التي يعرضها هذا القسم؛ فهناك أسفار يغلب عليها طابع السرد التاريخي مثل: أخبار الأيام وعزرا ونحميا، وهناك أسفار يغلب عليها الطابع الشعري وتشمل المزامير والمراثي ونشيد الأناشيد، وهناك أسفار يغلب عليها طابع الحكمة وتشمل أيوب والأمثال والجامعة. وينفرد سفر دانيال بأدب الرؤى.

 

جدول يبين ترتيب أسفار العهد القديم وعدد إصحاحاتها

 

م

أسماء الأسفار

عدد الإصحاحات

ת

التوراة     תורָה

 

1

التكوين             בְּרֵאשִׁית

50

2

الخروج                שְׁמוֹת

40

3

اللاويون               וַיִּקְרָא

27

4

العدد                    בְּמִדְבַּר

36

5

التثنية                  דְּבָרִים

34

נ

الأنبياء     נְבִיאִים

 

6

يشوع                  יְהוֹשֻׁעַ

24

7

القضاة                 שׁופְטִים

21

8

صموئيل الأول     שְׁמוּאֵל א

31

9

صموئيل الثاني   שְׁמוּאֵל ב

24

10

الملوك الأول      מְלָכִים א

22

11

الملوك الثاني      מְלָכִים ב

25

12

إشعيا                  יְשַׁעְיָהוּ

66

13

إرميا                  יִרְמְיָהוּ

52

14

حزقيال               יְחֶזְקֵאל

48

15

هوشع                   הוֹשֵׁעַ

14

16

يوئيل                      יוֹאֵל

4

17

عاموس                 עָמוֹס

9

18

عوبديا                 עֹבַדְיָה

1

19

يونان                      יוֹנָה

4

20

ميخا                      מִיכָה

7

21

ناحوم                     נַחוּם

3

22

حبقوق                 חֲבַקּוּק

3

23

صفنيا                   צְפַנְיָה

3

24

حجي                        חַגַּי

2

25

زكريا                    זְכַרְיָה

14

26

ملاخي                  מַלְאָכִי

3

כ

المكتوبات     כְּתובִים

 

27

المزامير             תְהִילִים

150

28

الأمثال                   מִשְׁלֵי

31

29

أيوب                   אִיּוֹב

42

30

نشيد الأناشيد    שִׁיר הַשִּׁירִים

8

31

راعوث                      רוּת

4

32

مراثي ارميا              אֵיכָה

5

33

الجامعة                  קֹהֶלֶת

12

34

إستير                     אֶסְתֵּר

10

35

دانيال                     דָּנִיֵּאל

12

36

عزرا                        עֶזְרָא

10

37

نحميا                     נְחֶמְיָה

13

38

أخبار الأيام الأول   דִבְרֵי הַיָּמִים א

29

39

أخبار الأيام الثاني  דִבְרֵי הַיָּמִים ב

36

 

 

ثانيًا: المضامين الأدبية في العهد القديم

يحتوي العهد القديم العديد من الأنواع الأدبية ، أشهرها: القصص والأساطير ، والأناشيد ، والأشعار الدينية ، وشعر الحكمة. ومهما اختلفت تلك الأنواع وتعددت فهي لا تخرج عن قالبين اثنين رئيسين: أحدهما نثري ، وهو السمة الغالبة لأسفار العهد القديم ، والآخر شعري. فما يصبُّ في النثر هي تلك القصص والأساطير ذات الطابع السردي ، بينما تتبع بقية الأنواع الأخرى القالب الشعري.

وفي الواقع فإن الفروق الأدبية بين الأسلوب النثري والأسلوب الشعري لأسفار العهد القديم ، مقارنة بالآداب الأخرى ، هي فروق ضئيلة ؛ ذلك أن شعر العهد القديم يخلو من البحور الشعرية ، ولا يقوم على وزن وقافية مثل الشعر العربي. ويمكن أن نلمس أبرز تلك الفروق فيما يلي([6]):

- إن الشعر يختلف عن النثر باحتفاظه بالعديد من الصيغ النحوية القديمة ، سواء في تصريف الكلمات أو في تركيبها النحوي ، من ذلك على سبيل المثال الحفاظ على الصيغ القديمة للضمير النهائي والمسمى باللاحقة (מו) في الأفعال ، مثلما نجد في "תְּהֹמֹת, יְכַסְיֻמוּ "    " تُغَطِّيهِمُ \للُّجَجُ " ( خروج: 15/4) وغيرها.

- يقلل الأسلوب الشعري من استخدام الأدوات الرابطة.

- يبرز الفارق بين الأسلوب الشعري والنثري في حصيلة المفردات ، فالشعر يتطلب باستمرار حصيلة وفيرة من الأسماء والأفعال والصفات التي تُوظَّف في النص تبعًا للعاطفة والفكرة المسيطرتين ، بينما تقل هذه الظاهرة في الأساليب النثرية.

- ينفرد الأسلوب النثري بالإكثار من استخدام الواو العاطفة في سرد القصة المقرائية ؛ نظرًا لأن الجمل النثرية جمل قصيرة ، لذلك تتصل ببعضها عن طريق تلك الواو التي تسمى أيضًا بالواو الرابطة.

وفيما يلي نعرض بشيء من التفصيل لكل من الأسلوبين ، النثري والشعري ، وما يتبعهما من صور أدبية مختلفة تضمنتها أسفار العهد القديم:

1- القصص والأساطير

تحفل أسفار العهد القديم بالعديد من القصص والأساطير ذات المغزى الديني ، والتي تعكس وعي الجماعات العبرية/اليهودية وتصورها لأصل الكون وإدراكها لوجودها ومصيرها ، كما تعكس مدى تأثر تلك الجماعات بالآداب الأخرى السابقة عليها أو المعاصرة لها. وفيما يلي أشهر تلك القصص والأساطير التي صورتها أسفار العهد القديم:

- أساطير كونية: تدور حول أصل الكون وتفسير خلق الكائنات ، مثل أسطورة الخلق الواردة في الإصحاحان الأول والثاني من سفر التكوين. وهي تفسر بداية كل شيء: الخليقة، الإنسان الأول، الزواج الأول وطرفيه آدم وحواء ، الخطيئة الأولى.

- أساطير العبادة والطقوس: وهي قصص تهدف إلى تفسير سبب قداسة مكان ما مثل رؤيا يعقوب في بيت إيل ( تك28 :10-22) ، أو ترتبط بالممارسة الطقسية للعبادة كقصة الختان (تك17)

- قصص تاريخية (أو قومية وعشائرية): وهي قصص تؤرخ بعض الأمم كما نرى في قصة نوح وأولاده ( تك9 : 25-27) ، وقصص الآباء الأولين إبراهيم وإسحق ويعقوب ، وحياة بني إسرائيل في مصر وقصة خروجهم منها.

- أساطير بطولية: تؤرخ أحداث عن شخص لعب دور مهم في التاريخ اليهودي كقصة موسى وصراعه مع عماليق ( تك17 : 8-16 ) ، وقصة شمشون مع الفلستيين ( القضاة: الإصحاحات 13 إلى 16)

- أساطير رمزية: ومنها قصة الحية التي أغرت المرأة لتأكل من الثمر المُحَرَّم ، وهي قصة رمزية تظهر أن النفس الإنسانية أمارة بالسوء وتشبه الحية في أذاها ([7])( تك3 : 1- 15). وكما في قصة بناء برج بابل ، والتي ترمز إلى كبرياء الإنسان وقدراته الزائفة أمام الإله ( تك11 : 1-9)

 

2- الشعر

هو من أقدم الأساليب الأدبية البشرية للتعبير عن المكنونات والتجارب الإنسانية. وتضم أسفار العهد القديم مجموعة من الأشعار العبرية التي تناولت موضوعات شتى ، أشهرها: الأناشيد الغنائية في سفر نشيد الأناشيد ، والأشعار الدينية في المزامير، وشعر الحكمة في سفر أيوب والجامعة والأمثال. ونوجزها فيما يلي:

1- سفر أيوب: يصور لنا أيوب الإنسان الكامل في غناه واستقامته والذي يتقي الله ويحبه، وحين يشتكي الشيطان علي أيوب أمام الله يسمح له الله بتجربة أيوب، فيُهلك مواشيه وممتلكاته وأولاده وصحته وتجريح أصحابه له، ورغم كل هذا ومع أنه لا يعرف سبباً لما يحدث معه، يرفض أن يترك الله أو يجدف عليه، وأخيراً يكافئه الله ويعوض له كل خسارته. ورسالة السفر هي أن التجارب والآلام ليست في كل الأحوال عقاب للخطيئة ، كما لا يجب أن تبعد الإنسان عن الحياة مع الله.

2- سفر المزامير : هو عبارة عن قصائد دينية تضمنت مجموعة من التسابيح والترانيم والصلوات والاعترافات والعبادة لله، وتتنوع في هذا السفر الموضوعات التي تشجع الإنسان في جوانب حياته المختلفة مع الله، فيبدأ السفر بتطويب الإنسان الذي باركه الله، وينتهي بالتهليل لتمجيد الله الذي بارك الإنسان.

3- سفر الأمثال: يقدم أرقى مجموعة من التعاليم الروحية والدينية والأخلاقية للشباب والقادة والعامة من الشعب في شكل حكم وأمثال. وغاية السفر هي حب الحكمة ، وأن الحكيم هو الذي يعرف الله ويحيا الحياة النقية الطاهرة.

4- سفر الجامعة:  كُتب هذا السفر ليعلن ومن خلال الخبرة الذاتية والاختبار الشخصي أن كل شيء بعيداً عن الله هو باطل وزائل، وأن الحياة لا معنى لها بعيداً عن طرق الله.

5- سفر نشيد الأناشيد: وهو أنشودة فرح تُكَّرِم الزواج، وتظهر حياة المحبة بين الرجل والمرأة، العريس وعروسه، وهي في صورتها الروحية انعكاس للمحبة المتبادلة بين الله والإنسان.

وقد صُنِّفت هذه الأسفار بالشِّعرِيَّة لتمييزِها عن أسفارِ الشريعة والأنبياء والأسفار التاريخيَّة، فيخاطب الرب قُلوبِ شعبِه المُتألِّم في أيوب، والعابِد في المزامير، والمُنهَمِك بالأُمورِ اليَوميَّة للحياةِ العائِليَّة والتَّعامُلِ التِّجارِي في الأمثال، والمُشكِّك في الجامعة، وأخيرًا يخاطب قُلُوبِ شعبِهِ عندما يُعَبِّرُونَ عن بَهجَةِ الوحدَةِ الجَسدِيَّةِ الحميمَة بينَ الزَّوجِ والزَّوجَةِ في نشيدِ الأناشيد([8]).

وتمتاز الأشعار في العهد القديم عمومًا بدقة التعابير وجمال الأسلوب ، وهي لا تتقيد بالأوزان والقوافي ، بل تنتظم في بعض الأساليب التي تنحصر في نظام الفقرات([9]) ، وقانوني التقابل والتوازي. تلك الأساليب التي تودع في النصوص ما يُسمى بموسيقى الشعر من خلال التناغم بين الجمل ، فتأتي الفكرة على صيغة عبارتين تتكاملان بالتماثل والتوازي ، أو بالتضاد والطباق. وذلك على النحو التالي:

1- التماثل والتوازي: وفيه ينقسم البيت إلى شطرين متوازيين متعادلين متقاربين في المعنى ، مثل:

" יְהוָה, אוֹרִי וְיִשְׁעִי--מִמִּי אִירָא;
יְהוָה מָעוֹז-חַיַּי,    מִמִּי אֶפְחָד."

" الرب نوري وخلاصي ممن أخاف

الرب حصن حياتي ممن أرتعب "   ( مزامير: 27/1 )2

 

 

2- التشابه والتكرار:  

" שְׁמַעַן קוֹלִי--נְשֵׁי לֶמֶךְ, הַאְזֵנָּה אִמְרָתִי:  כִּי אִישׁ הָרַגְתִּי לְפִצְעִי, וְיֶלֶד לְחַבֻּרָתִי." 

" اسمعا قولي ! يا امرأتي لامك ، وأصغيا لكلامي. فإني قتلت رجلاً لجرحي ، وفتى لشدخي "   ( تكوين: 4/23 )

3- التدريج: وفيه يشرح السطر الثاني فكرة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسطر الأول ، مثل:

 "  שָׁם רְשָׁעִים, חָדְלוּ רֹגֶז;    וְשָׁם יָנוּחוּ, יְגִיעֵי כֹחַ."

" هناك يكف المنافقون عن الشغب ، وهناك يستريح المتعبون " ( أيوب: 3/17 )

4- التركيب: تُستخدم فيه الفكرة في السطر الأول كأساس لتُبنى عليها الأفكار المتتابعة:

 " אַל-תַּעַן כְּסִיל, כְּאִוַּלְתּוֹ:    פֶּן-תִּשְׁוֶה-לּוֹ גַם-אָתָּה."

" لا تجاوب الغني بحسب حماقته، لئلا تكون أنت نظيره " (أمثال:26/4)

5- التو كيد:

" קוֹלִי, אֶל-יְהוָה אֶזְעָק;  

קוֹלִי, אֶל-יְהוָה אֶתְחַנָּן."

" بصوتي إلى الرب أصرخ

بصوتي إلى الرب أتضرَّع " ( مزامير: 142/1 )

6- المقارنة: وفيه تتضح الفكرة بالمقارنة بشيء آخر معروف:

" כְּאַיָּל, תַּעֲרֹג עַל-אֲפִיקֵי-מָיִם--    כֵּן נַפְשִׁי תַעֲרֹג אֵלֶיךָ אֱלֹהִים."

" كما يشتاق الإبل إلى جداول المياه ، كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله " ( مزامير: 42/2 )

7- التناقض: وفيه تتضح الفكرة بالتناقض:

" בֵּן חָכָם, יְשַׂמַּח-אָב;  

וּבֵן כְּסִיל, תּוּגַת אִמּוֹ."

" الابْنُ الحكيم يَسُرُّ أباه

والابن الجاهل حُزْنُ أُمِّهِ " ( أمثال: 10/1 )

وقد عرف الشعر العبري القديم في مرحلة ما بعد السبي البابلي أسلوبًا شعريًا آخرًا يقوم على النظام الأبجدي ، أي يأخذ ترتيب الفقرات ترتيب الأبجدية العبرية، فيكون لكل حرف من الأبجدية بيت أو نصف بيت. وإن كان هذا النظام يرتبط في بعض الأحيان بقانون التقابل القديم، ولكن العلاقات اللفظية البحتة هنا تحتل مكان الصدارة ([10]).

مثال: ( مزمور 111 )

הַלְלוּ-יָהּ:

אוֹדֶה יְהוָה, בְּכָל-לֵבָב;    בְּסוֹד יְשָׁרִים וְעֵדָה.
גְּדֹלִים, מַעֲשֵׂי יְהוָה;    דְּרוּשִׁים, לְכָל-חֶפְצֵיהֶם.
הוֹד-וְהָדָר פָּעֳלוֹ;    וְצִדְקָתוֹ, עֹמֶדֶת לָעַד.
זֵכֶר עָשָׂה, לְנִפְלְאוֹתָיו;    חַנּוּן וְרַחוּם יְהוָה.
טֶרֶף, נָתַן לִירֵאָיו;    יִזְכֹּר לְעוֹלָם בְּרִיתוֹ.
כֹּחַ מַעֲשָׂיו, הִגִּיד לְעַמּוֹ--    לָתֵת לָהֶם, נַחֲלַת גּוֹיִם.
מַעֲשֵׂי יָדָיו, אֱמֶת וּמִשְׁפָּט;    נֶאֱמָנִים, כָּל-פִּקּוּדָיו.
סְמוּכִים לָעַד לְעוֹלָם;    עֲשׂוּיִם, בֶּאֱמֶת וְיָשָׁר.
פְּדוּת, שָׁלַח לְעַמּוֹ--    צִוָּה-לְעוֹלָם בְּרִיתוֹ;
קָדוֹשׁ וְנוֹרָא    שְׁמוֹ.
רֵאשִׁית חָכְמָה, יִרְאַת יְהוָה--    שֵׂכֶל טוֹב, לְכָל-עֹשֵׂיהֶם;
תְּהִלָּתוֹ,    עֹמֶדֶת לָעַד.

هَلِّلُويَا:

أَحْمَدُ \لرَّبَّ بِكُلِّ قَلْبِي فِي مَجْلِسِ \لْمُسْتَقِيمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ.

عَظِيمَةٌ هِيَ أَعْمَالُ \لرَّبِّ. مَطْلُوبَةٌ لِكُلِّ \لْمَسْرُورِينَ بِهَا.

جَلاَلٌ وَبَهَاءٌ عَمَلُهُ وَعَدْلُهُ قَائِمٌ إِلَى \لأَبَدِ.

صَنَعَ ذِكْراً لِعَجَائِبِهِ. حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ هُوَ \لرَّبُّ.

أَعْطَى خَائِفِيهِ طَعَاماً. يَذْكُرُ إِلَى \لأَبَدِ عَهْدَهُ.

أَخْبَرَ شَعْبَهُ بِقُوَّةِ أَعْمَالِهِ لِيُعْطِيَهُمْ مِيرَاثَ \لأُمَمِ.

أَعْمَالُ يَدَيْهِ أَمَانَةٌ وَحَقٌّ. كُلُّ وَصَايَاهُ أَمِينَةٌ

ثَابِتَةٌ مَدَى \لدَّهْرِ وَ\لأَبَدِ مَصْنُوعَةٌ بِالْحَقِّ وَ\لاِسْتِقَامَةِ.

أَرْسَلَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ. أَقَامَ إِلَى \لأَبَدِ عَهْدَهُ. قُدُّوسٌ وَمَهُوبٌ \سْمُهُ.

رَأْسُ \لْحِكْمَةِ مَخَافَةُ \لرَّبِّ. فِطْنَةٌ جَيِّدَةٌ لِكُلِّ عَامِلِيهَا. تَسْبِيحُهُ قَائِمٌ إِلَى \لأَبَدِ.

وعلاوة على الأسفار الشعرية الخمسة السابقة ، فإن هناك أشعارًا أخرى كانت تُنشد ، أحيانًا ، بمصاحبة الآلات الموسيقية ، أشهرها:

- نشيد انتصار موسى: وهو أنشودة تسبيح يهوه أنشدها موسى (عليه السلام) وبنو إسرائيل بعد عبور البحر الأحمر ، وغنتها مريم النبية مع نساء بني إسرائيل وهن يرقصن على دقات الدفوف (خروج: 15/1 – 19 ).

- أنشودة موسى الوعظية شرقي الأردن (تثنية:32).

- بركة موسى النبوية للأسباط  (تثنية: 33).

- نشيد انتصار دبورة: وهو يتضمن بعض الفقرات الغنائية (القضاة: 5/ 2-5 , 9).

- أنشودة بلعام: وتتضمن فقرات غنائية (العدد: 23/ 9-10 , 21-24 , 24/ 5-6 ).

- قصيدة تدشين الهيكل لسليمان عليه السلام: وبعضها أيضًا يُنسب إلى هذا النوع من الشعر الغنائي (الملوك الأول: 8/ 12-13).

- الإصحاحان الخامس والسادس من سفر مراثى إرميا: وهما يُنسبان كذلك إلى الشعر الغنائي.

ويبدو أن هذه الأشعار الدينية الغنائية كانت تنشد لمناسبات طقوسية ، خاصة عند تقديم القرابين ، فبعد أن قدمت حِنة ( أم صموئيل) تغنت قائلة: « أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي. حَيَّةٌ هِيَ نَفْسُكَ يَا سَيِّدِي, أَنَا \لْمَرْأَةُ \لَّتِي وَقَفَتْ لَدَيْكَ هُنَا تُصَلِّي إِلَى \لرَّبِّ... فَرِحَ قَلْبِي بِالرَّبِّ. \رْتَفَعَ قَرْنِي بِالرَّبِّ. \تَّسَعَ فَمِي عَلَى أَعْدَائِي, لأَنِّي قَدِ \بْتَهَجْتُ بِخَلاَصِكَ ». (صموئيل الأول: 1/ 26 , 2/ 1). ومثل ذلك ما نجده في سفر يونا:  « أَمَّا أَنَا فَبِصَوْتِ \لْحَمْدِ أَذْبَحُ لَكَ وَأُوفِي بِمَا نَذَرْتُهُ. لِلرَّبِّ \لْخَلاَصُ». (يونا:2/9 ) ، وكذلك فإن قصيدة دبورة عند إنشائها قد صاحبها تقديم قرابين الشكر ليهوه بعد الانتصار على العدو.

 

 

[1] ) العهد القديم: تسمية يستخدمها المسيحيون للإشارة لكتاب اليهود المقدس، إذ يشكل كل من العهد القديم والعهد الجديد الكتاب المقدس للكنيسة المسيحية ، والتي ورثت من اليهودية كذلك أسلوب العبادة ، وشكل الهيكل ، وسلطان الكهنوت. أما اليهود أنفسهم فيستخدمون لفظ תנ"ך (تاناخ) ، وكذلك يستخدمون لفظ "מִקְרָא " (مِقرَا): أى النص المقروء ؛ لأنهم مطالبون بقراءته فى عباداتهم والرجوع إلى أحكامه ، وهناك اسم ثالث له عندهم صفة علمية خاصة وهو "מסורה" (المسوراه)، ويعنى النص المقدس المروى عن الأسلاف رواية متواترة ارتضتها جماهير العلماء ، ورفضت ما عداها .

 

[2] ) وهي الأسفار التي تضمنتها الترجمة السبعينية لأسفار العهد القديم عن نسختها الأصلية العبرية إلى اللغة الإغريقية السائدة فى مدنية الإسكندرية / مصر آنئذ بأمر من الحاكم بطليموس فيلادلفوس عام (283 –282 ق.م) وسميت بالسبعينية ، لأنه قام بها سبعون أو اثنان وسبعون حبراً يهودياً ، أى بمعدل ستة أحبار من كل قبيلة من قبائل اليهود الإثنتى عشرة ، وتشتمل هذا الترجمة على أربعة عشر سفراً لا توجد فى الأصل العبرى ، وهذه الأسفار هى : سفر طوبيا ، سفر الحكمة لسليمان ، وأسفار المكابيين وعددها أربعة ، وسفر يهوديت ، وسفر الكهنوت أو سفر الحكمة ليشوع بن سيراخ ، ونشيد الأطفال الثلاثة ، و سفر بعل والتذين ، وثلاثة أسفار منسوبة لعزرا زيادة على السفر المثبت فى الأصل العبرى ، وبعض زيادات فى سفر دانيال.

[3] ) اعتمدت في هذا الصدد على ما جاء في المصادر الآتية:

  - Sarna, Nahum M., S. David Sperling. Book of Genesis. Encyclopedia Judaica, Second Edition, Volume 7, p.440

-  الإنسان والكون والتطور بين العلم والدين، هنري بولاد، دار المشرق، الطبعة الرابعة، بيروت 2008

-  التراث الإنساني في التراث الكتابي، روبير بندكتي، دار المشرق، بيروت 1987

- موسوعة المعرفة المسيحية، أسفار الشريعة أو التوراة، مجموعة من المؤلفين بموافقة بولس باسيم النائب البابوي في لبنان، دار المشرق، طبعة أولى، بيروت 1990.

-  العبادات في الديانة اليهودية، عبد الرزاق الموحي، دار الأوائل، طبعة أولى، دمشق 2004

[4] ) توصلت جهود علماء نقد الكتاب المقدس إلى نظرية مؤداها أن النص الأصلي للتوراة لا وجود له ، وأن التوراة الحالية اعتمدت في بنائها على مصادر إنسانية استفادت من نص قديم للتوراة ، فعدَّلت منه ، وغيرت فيه بالزيادة والنقصان. وهذه المصادر أو الروايات نفسها ، في رأى الباحثين المحدثين ، ليست منفصلة ، بل أنها مركبة ومؤلفة من طبقات تتميز عن بعضها البعض في الشكل والمضمون ، وعن طريق التحليل أمكن التمييز بين أربعة مصادر ، هي:

أ – المصدر اليَهَوِي: نسبة إلى اسم الله " יְהוָה " (يِهُوَه) ، ويشار إليه بالحرف (J) ، وقد أُلِّف هذا المصدر حوالى عام 850 ق.م فى مملكة يهوذا ، ولغة هذا المصدر فجة واقعية غير منمقة تسمى الأشياء باسمائها، والفكرة السائدة فى هذا المصدر هى تثبيت كون إسرائيل هو شعب الله المختار .=

ب- المصدر الإلوهيمى: نسبة إلى اسم الله " אֱלוהִים " (إيلوهيم) ، ويشار إليه بحرف (E) ، وقد ألف هذا المصدر حوالى عام 770 ق.م فى مملكة إسرائيل الشمالية ، ولغة هذا المصدر أكثر تهذيباً وعمقاً من لغة المصدر السابق، وتعتمد على التشابه والتورية ،  ويعود للمدرستين اليهوية والايلوهيمية تحرير معظم سفرى التكوين والخروج ، وقد أدمج هذان المصدران حوالى عام 650 ق.م

جـ- المصدر التثنوى: ويشار إليه بالحرف (D) نسبة إلى عبارة(Deuteronomy)  أى التثنية، ويمتاز بلهجته الخطابية التى يدعو= =فيه إلى اتِّبَاع الشريعة ، وقد عُثر عليه فى زمن الملك يوشيا ملك يهودا حوالى عام (620 ق.م) =

=د – المصدر الكهنوتى: ويشار إليه بالحرف (P) رمزاً إلى كلمة  “priests” أى الَكَهَنَة ، ويعود إلى هذا المصدر تحرير سفر العدد وبعض من سفرى التكوين والخروج ، ولغة هذا المصدر جافه وتتسم بإعطاء التعليمات الطقوسية . وأخيراً أدمج هذا المصدر الأخير داخل الثلاثة مصادر السابقة (J.E.D)  مع بعض الإضافات تقريباً فى زمن عزرا حوالى (444 ق.م) ، وبهذا الشكل صيغ المؤلَّف الكامل  (J.E.D.P) الذى يشكل التوراة .

 

 

[5] ) المرشد إلى الكتاب المقدس ، جمعية الكتاب المقدس في لبنان ومجلس كنائس الشرق الأوسط ، ط 2 ، 2000 ، صـ370- 376 (بتصرف).

[6] ) د. عبد الرازق أحمد قنديل ، الأدب العبري القديم: مدخل ، بدون ناشر ، 2001 ، ص 79 – 80 (بتصرف)

[7] ) د. ألفت محمد جلال ، الأدب العبري القديم والوسيط ، مطبعة جامعة عين شمس 1978 ، ص 13

[8] ) رياض الحبيب ، الفنون الأدبيّة في الكتاب المقدَّس

https://www.linga.org/varities-articles/NzcyNQ - 20/3/2016

 

[9] ) الفقرة الشعرية عبارة عن عدد معين من الأبيات التي تنطوي على معنى تام ، وتسير على ترتيب خاص ، وتكوِّن أقسام القصيدة بتكرارها المنتظم=

=- د. محمد القصاص ، الشعر العبري ، مكتبة الأنجلو المصرية (بدون تاريخ) ، ص 28

[10] ) د. محمد القصاص ، مرجع سابق ، ص 62