في

تَحْقِيق التُّراثِ العَربيّ وَ نَشْرِه

 

 

دكتور

فتوح خليل

أستاذ النحو والصرف والعروض

2013م

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:

فقد كانت الكلمة الأولى التي أُنزلت وحيًا على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في آخر اتصال للسماء بالأرض هي كلمة (اِقْرأً): {اقْرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}([1]).

وجدير بالذكر أنَّ علماء المسلمين قد خلفوا وراءهم مواريث عظيمة، بيد أن هذه المواريث لم تخلد كما هي؛ بل طرأت عليها صروف الدهر من المحن التي أدت إلى تلف معظمها بالإحراق، أو الإغراق، أو التمزيق، وذلك على يد أعداء أمة الإسلام - وبعض هؤلاء الأعداء الذين أقدموا على هذه الجرائم نقل معه إلى بلاده ما تبقى من المؤلفات القيمة النافعة من فنون متعددة، وغرضهم من ذلك أن يجعلوها مظاهر تاريخية يحتفظون بها في مكتباتهم كمتاحف للزوار([2]).

جهود المستشرقين في مجال تحقيق التراث العربي:-

بقيت المؤلفات المنقولة من بلاد المسلمين إلى بلاد الغرب محفوظة في مكتباتهم مئات السنين ولا علم للمسلمين بشأنها، إلا ما تحيل إليه الكتب الموجودة لديهم كمراجع، ولما أراد الله إبرازها هيأ لها من الغربيين من يقوم بدراسة اللغة العربية التي كتبت بها تلك الكتب دراسة عميقة بليغة فهموا من خلالها أسرار اللغة العربية ومراميها الدقيقة وطرق كتابتها وتأليفها وأضافوا إلى هذه الثقافة الجديدة ما عندهم من قواعد ومناهج متبعة في تحقيق المخطوطات ونشر التراث، ولما اطلعوا على هذه الكتب العربية الإسلامية التي زخرت بها مكتباتهم بعد هذا الفهم الدقيق فسابقوا إلى إحيائها ونشرها بعيدة عن التبديل والتغيير لأنهم طبقوا في نشر النصوص العربية القواعد التي تتبع في أوروبا لنشر النصوص الكلاسيكية وهي قواعد دقيقة تضمن الأمان في إخراج النص وتضمن أن يأتي النص المنشور كما وضع في أصله، سواء كان عربيا أم غيره؛ وإلا يعتبر عيبا فاحشا في دنيا الثقافة لديهم([3]).

وللمستشرقين مجهودٌ مقدر في بعث الكتابات الجاهلية ونشرها؛ فقد أعادوا إلى الخط الذي كتبت به الحياة، وجعلوه مقروءًا معروفًا، وترجموا كثيرًا من هذه النصوص إلى لغاتهم، وهي وثائق من الدرجة الأولى، وعملوا على نشر النصوص بالمسند وبالحروف اللاتينية أو العبرانية أو العربية في بعض الأحيان، وعلى استخلاص ما جاء فيها من أمور متنوعة عن التأريخ العربي قبل الإسلام([4]).

هذا، وقد نجح علماء الغرب حقيقة في وضع مجموعة من الأصول والقواعد اللازمة لنقد النصوص وتحقيقها، وقد حدث هذا خلال القرن التاسع عشر، وقد تأثر المستشرقون بهؤلاء العلماء، واعتمدوا على تلك الأصول والقواعد في نشرهم لأمهات الكتب العربية.

ومن هؤلاء العلماء الذين كان لهم دور في تأصيل هذه الأصول: "وليم رايت" الذي نشر كتاب (الكامل) للمبرد، سنة أربع وستين وثمانمائة وألف. و "جوستاف يان" الذي نشر (شرح المفصل) لابن يعيش سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة وألف، ومنهم "بيفان" ، الذي نشر نقائض جرير والفرزدق نشرة علمية مزودة بالفهارس والتعليقات، في "ليدن" سنة ألف وتسعمائة وخمس([5]).

ومن هؤلاء أيضا "تشارلز ليل" الذي نشر (شرح المفضليات) لابن الأنباري، مع ترجمة بالإنجليزية في بيروت سنة ألف وتسعمائة وعشرين. و "رودل فيجير" الذي نشر ديوان الأعشى الكبير، في كتاب سماه (الصبح المنير في شعر أبي بصير) ، وذلك في لندن سنة ثمان وعشرين وتسعمائة وألف، وغير أولئك كثير.

" ومن الإنصاف أن نقرر أن المستشرقين كان لهم فضل السبق في نشر تراثنا العربي منذ القرن الماضي وأنهم أول من نبهنا إلى كتبنا ونوادر مخطوطاتنا وأنهم وضعوا بين أيدينا نصوصا لولاهم لم نعرفها"([6]).

 

([1]) سورة  العلق 96/ 1-4

([2]) البراهين الإسلامية في رد الشبهة الفارسية، ص 17، تأليف عبد اللطيف ابن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب آل الشيخ (المتوفى: 1293هـ)، مكتبة الهداية ، الطبعة: الأولى 1410هـ _ 1989م.

([3]) البراهين الإسلامية في رد الشبهة الفارسية (ص: 18)

([4])  المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 1/ 123، المؤلف: الدكتور جواد علي (المتوفى: 1408هـ) ، الناشر: دار الساقي

الطبعة: الرابعة 1422هـ/ 2001م

([5]) أصول البحث الأدبي ومصادره ص: 290

([6]) البراهين الإسلامية في رد الشبهة الفارسية (ص: 19)