الفصل الأول

المفاهيم التربوية والتنموية

مفهوم التربية :

  اختلفت تعريفات التربية باختلاف آراء المفكرين والاختصاصيين فقد وردت تعريفات عديدة منها أنها: عملية توجيه أو تشكيل للحياة، أو أنها عملية تكييف وتكيف للمحيط، أو أنها إعداد التلاميذ للحياة العملية المقبلة، أو أنها وسيلة أو عملية تحدد بها طرق معيشتنا أو أنها عملية نقل المعارف والخبرات والمهارات والعادات من فرد إلى فرد ومن جيل إلى جيل ومن مجتمع لمجتمع.

وقد ينظر إلى التربية على أنها عملية روحية تساهم في تعميق إيمان الإنسان بخالقه وتوثيق صلته به، وقد يقصد بها تسامي الإنسان عن رغباته الدينويه وحاجاته المادية والبيولوجية.

ويؤكد توما الأكويني Thomas d’Aquin على ذلك حين يرى أن الهدف من التربية تحقيق المساعدة للإنسان من خلال غرس الفضائل الخلقية والدينية فيه.

وتساهم التربية في اكتشاف مواهب الأفراد وقدراتهم للعمل على تنميتها وتوظيفها في خدمة الصالح العام، فالتربية هنا تعني نمو الفرد الناتج عن الخبرة ذلك أنها تعمل على تنمية الوظائف الجسمية والعقلية والخلقية للفرد كي تبلغ كمالها عن طريق التدريب والتثقيف.

كما يرتبط مفهوم التربية بمفهوم الثقافة حسب رأي " تايلور" باعتبار الثقافة هي ذلك الكل المركب أو المعقد، والذي يشمل العادات والتقاليد والقيم والأخلاق والدين، وكل ما يكتسبه الفرد في المجتمع باعتباره عضواً فيه.

وهكذا تحمل التربية معاني متعددة:

- الاجتماعي: تعنى التربية بالتنشئة الاجتماعية المتكاملة للفرد كما يرى " هربرت سبنسر" H. Speneer

ويرتبط مفهوم التربية بالدور الاجتماعي والمركز الاجتماعي Social status,،  والبناء الاجتماعي، Social Sturcture  ، وغيرها من المفاهيم التي تعكس بوضوح ما يسمى بالوظيفة الاجتماعية Social Function  .

ويرى دوركايم Durkheim أن التربية الاجتماعية تشتمل على التربية الأخلاقية والتربية الجسمية والتربية العقلية، وهي: ما تلقنه الأجيال الناضجة للأجيال التي لم تنضج بعد لمواجهة الحياة الاجتماعية.

- التعليمي: تعنى التربية بغرس المعلومات والمهارات المعرفية من خلال مؤسسات معنية نشأت لهذا الغرض كالمدارس فتزداد معرفة الفرد وتتسع مداركه وتنمو قدراته كنتيجة للدراسة والتعليم والتثقيف.

- التهذيبي:  تعنى التربية بتدريب الفرد على الفضيلة من خلال اكتسابه العادات والتقاليد الفضلى فتساهم في تهذيب الخلق وبث الأخلاق الحميدة في الإنسان وتربيته تربية مثالية لا وجود لها في أرض الواقع كما يرى (أفلاطون)

- الفردي: تعنى التربية بالعمل على تشجيع نزعة الفرد الاجتماعية لتتغلب على نزعته الفردية الأنانية كما يرى (هيجل) Hegel مما يؤدي إلى شدة اندماج الفرد بالجماعة فيزداد شعوره بالواجب  الاجتماعي.

   يتبين لنا أن للتربية منطلقات إنسانية وقومية وتنموية وعلمية واجتماعية، فقد ينظر إليها على أنها الفن الذي بواسطته يتوفر لكل جيل من الأجيال معرفة الماضي بصورة منتظمة، كما ينظر إليها على أنها خدمة المثل العليا للمجتمع، ومن ناحية أخرى خدمة المثل العليا للفرد، وينظر إليها على أنها عملية تنمية اجتماعية، كما ينظر إليها على أنها عملية تنمية اقتصادية لأنها تعني استثمار الأموال في الموارد البشرية التي هي عنصر هام من عناصر الإنتاج الرئيسية، وقد ينظر إليها على أنها أحد فروع المعرفة الأكاديمية.

وهكذا نرى أن التربية ترمي إلى تحقيق أهداف متعددة منها ما هو من اجل المحافظة على المجتمع وتماسكه، ومنها ما هو للتجديد أو تغيير فرص الحياة Life Chances   أو الحراك الطبقىClass Mobility  أو الحراك المهني Mobility Proffesional   أو تغيير الوظائف والأدوار والمراكز الاجتماعية والاقتصادية عموماً.

أذن التربية هي عملية نقل مجموعة معارف ومهارات وقيم من الملقي إلى المتلقي. هذا التعريف يكاد يكون هو المهيمن على جميع التصورات والبرامج والسياسات التربوية بشكل عام. والغاية من التربية دائما حسب نفس المنظور، هي إنتاج سلوكيات وأفعال تساعد الفرد على العيش والعمل والاندماج وسط المجتمع.

خلال العقد الأخير من القرن الماضي، بدأ الحديث عن التربية برؤية ومنظور جديدين وذلك من خلال إعادة النظر في ماهية ومفهوم التربية. التربية مدى الحياة كان أهم مفهوم يتم استحداثه نظرا لشموليته من جهة، ومدى وقعه الإيجابي على إعداد الفرد من جهة ثانية.
  التعلم من أجل التعرف حتى يتسنى للفرد امتلاك ثقافة عامة وموسعة، مع إمكانية التخصص في بعض المجالات.
  التعلم من أجل العيش والتعايش مع الآخرين والذي يتطلب الإطلاع على الآخر كثقافة وتاريخ وتقاليد، حتى يتسنى إعمال منطق الشراكة والتعاون بين الأفراد والمجموعات.
  التعلم من أجل المزاولة بحيث يجب إعداد الفرد من أجل امتلاك قدرة التكيف في الأعمال والعمل داخل المجموعات، إضافة إلى الجمع بين الدراسة والعمل. - التعلم من أجل اكتشاف الذات، والذي يركز على استغلال جميع طاقات الفرد مثل الذاكرة، المنطق، الخيال والإبداع، القدرات الجسمانية، الحس الجمالي، الحوار مع الآخر.

كل هذه الخصائص والسمات السالفة الذكر تشكل بنية مفهوم التربية مدى الحياة، والجديد أيضا في هذا المفهوم هو إطالة زمن وعمر الفعل التربوي مدى الحياة ليشكل قوة إضافية في يد الفرد والمجموعات البشرية لربح الرهانات المطروحة. كما يعتبر الامتلاك والاستعمال أهم وظائف المسلسل التربوي حسب منظور مفهوم التربية مدى الحياة.

مفهوم التنمية:

   ارتبط مفهوم التنمية في البداية بفكرة التطور التي أسهمت في ظهور نظريات اجتماعية فسرت كيفية تطوير المجتمعات المتخلفة، ولقد تباينت التفسيرات التي قدمها العلماء والمفكرون بسبب اختلاف منطلقاتهم الأيديولوجية.

فالتنمية كمصطلح تستخدم دوليا على نطاق واسع الأن، وتشير إلى أنها عملية تغيير مقصود تقوم بها سياسات محددة، وتشرف على تنفيذها هيئات قومية مسؤولة تعاونها هيئات على المستوى المحلي، تستهدف إدخال نظم جديدة، أو خلق قوى اجتماعية جديدة مكان القوى الاجتماعية الموجودة بالفعل، أو إعادة توجيهها وتنشيطها بطريقة جديدة، وتهيئة الظروف المتعددة لهذا الجانب من التغيير الاجتماعي الذي يطلق عليه اسم "التنمية" .

  وتعتبر التنمية هدفاً هاماً شاملاً لعملية ديناميكية تحدث في المجتمع ونجد مظاهرها في تلك السلسلة من التغييرات البنائية والوظيفية التي تصيب مكونات المجتمع وتعتمد على التحكم في حجم ونوعية الموارد المادية والبشرية المتاحة للوصول بها إلى أقصى استغلال ممكن، في أقصر فترة مستطاعة وذلك بهدف تحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية لجميع أفراد المجتمع.

   فالتنمية إذن: هي الجهود المنظمة التي تبذل وفق تخطيط مرسوم للتنسيق بين الإمكانيات البشرية والمادية المتاحة في وسط اجتماعي معين، بقصد تحقيق مستويات أعلى للدخل القومي والدخول الفردية، ومستويات أعلى للمعيشة والحياة الاجتماعية في نواحيها المختلفة كالتعليم والصحة والأسرة، والشباب ومن ثم الوصول إلى تحقيق أعلى مستوى ممكن من الرفاهية الاجتماعية.

  ومن المسلم به عالمياً على الأقل أن التنمية هي التحريك العلمي المخطط لمجموعة من العمليات الاجتماعية والاقتصادية من خلال أيديولوجية معينة، لتحقيق التغيير المستهدف من

أجل الإنتقال من حالة غير مرغوب فيها إلى حالة مرغوب الوصول إليها، أي هي سلسلة من الأطوار المتناسقة التي يمر بها شعب من الشعوب في الانتقال من مرحلة أقل إنسانية إلى مرحلة أكثر إنسانية، غايتها رفع مستوى الإنسان، وحفظ قيمته وإعلاء شأنه، وتنمية وعيه وقدراته على تحمل مسؤولية مواجهة مشكلاته.

وقد عرفت الأمم المتحدة التنمية بأنها: العملية المرسومة لتقدم المجتمع كله اجتماعياً واقتصادياً والمعتمدة بأكبر قدر ممكن على مبادرة المجتمع المحلي وإشتراكه. وهي أيضاً العمليات التي يمكن بها توحيد جهود المواطنين والحكومة لتحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات المحلية، ولمساعدتها على الإندماج في حياة الأمة والمساهمة في تقدمها بأقصى قدر ممكن.

 وهكذا فإن التنمية بشكل عام هي سلسلة من الجهود الفردية والجماعية والتي تبدل بشكل واع والتي تهدف إلى إشباع حاجات الإنسان المتعددة والمتغيرة إضافة إلى المجال الذي يحيا فيه، وذلك بشكل عادل وفي احترام تام لكرامة هذا الإنسان. و التنمية تحتاج إلى تصور واضح متعدد الأبعاد وبناء متماسك وفعال. ويبقى التخطيط أهم آلية لبلورة وتجسيد هذه الرؤى على أرض الواقع. فالتنمية تستلزم التوفر على التفكير الاستراتيجي، والتخطيط الاستراتيجي الذي ينبني على مجموعة عناصر أساسية تسهم في نجاح التخطيط ونذكر منها: الرؤية الواضحة، القيم المرشدة، الصلاحيات، تشخيص الاحتياجات، الأهداف المركزية، الغايات، الخطة الاستراتيجية ، خطط العمل ثم التنفيذ والمراقبة.

لا يكفي التوفر على تصور وبناء وخطاطات لإنجاح التنمية رغم أهميتهما القصوى، إذ لابد من التوفر على قدرات وموارد بشرية مبدعة وخلاقة لتجسد هذا التصور والخطاطات التنموية. من هنا تبرز أهمية تقوية قدرات الإنسان في عملية التنمية مع استحضار أن الإنسان هو الأداة والهدف في المسلسل التنموي.

 

علاقة التربية بالتنمية:

بداية لابد من طرح الأسئلة التالية:

* كيف يمكن تطوير قدرات الإنسان ؟ * ماهى الأداة الناجحة في هذا التطوير ؟

للحديث عن تطوير قدرات الإنسان لابد من الإشارة إلى حاجات هذا الإنسان، فالملاحظ أن هذه الحاجات تتطور بشكل عام بمعنى أن هناك حاجات طبيعية تفرضها طبيعة الإنسان، وحاجات تفرضها درجة التطور الحاصل في المجتمعات. تأسيسا على هذا يمكن أن نتحدث عن قدرات الإنسان، والسؤال الذي يطرح هو هل هذا الإنسان يعي كل قدراته؟ وهل يملك وعيا شاملا بكل قدراته؟ وهدا يدفعنا للتساؤل عن مدى توظيف هذه القدرات المكتشفة وغير المكتشفة بالشكل السليم في خدمة حاجاته ومن ثم تحسين مستوى عيشه في جميع المجالات؟ هذه الأسئلة تدفعنا للتساؤل مرة أخرى بأي أداة سنطور هذه القدرات؟ في نظري، أعتقد أن مفهوم التربية مدى الحياة بكل عناصره يجيب بشكل وافٍ عن الأسئلة المطروحة أعلاه. فالقدرات الإنسانية هي الطاقات والإمكانيات التي يتوفر عليها الفرد والمجموعات البشرية على السواء. وهذه الطاقات منها ماهو مهمل وما هو موظف بشكل سيء. فتطوير القدرات البشرية يستلزم توسيع الخيارات، بمعنى توفير إمكانيات متعددة أمام البشر. فتعدد الإمكانيات يعني في جوهره الحرية، الحرية الفردية والجماعية وهي حرية مشروطة بمعنى الحرية المنظمة والمقننة والتي تراعي مصالح كل الأطراف. من هنا تبرز أهمية التربية كأداة وكهدف في حد ذاته لتنمية وتطوير القدرات البشرية، فالتربية كأداة تعني أيضا التعلم واكتساب المعارف والمهارات والقيم من أجل العمل المنتج للفرد والمجتمع. وتعني أيضا التعلم من أجل كسب ثقافة عامة عن الإنسان الآخر، تاريخه، أسلوب عيشه، منطقه، مما يسهم في بناء التعايش مع الآخر. إضافة إلى تعلم التكيف والتحيين مما يسمح بإمكانية مزاولة مهام مختلفة وداخل مجموعات عمل متنوعة، إلى جانب التعلم من أجل اكتساب الذات كطاقات وقدرات .أما التربية كهدف، فتعني الوصول إلى التطوير وبالتالي إلى مستوى أرقى لهذه القدرات والطاقات، مما يستلزم المزيد من البحث والجهد لرصد القدرات غير المستعملة للرقي بها إلى أبعد مدى مما يسمح للإنسان بالاستفادة القصوى لطاقاته وقدراته بشكل عام.

إذا كانت وظائف المسلسل التربوي هي الامتلاك والتحيين والاستعمال فإن عناصر مفهوم التربية مدى الحياة تشكل أساس هذا المسلسل بشكل عام، على هذا الأساس يمكن إنتاج موارد بشرية قادرة على امتلاك رؤى وتصورات استراتيجية، موارد تحترف التخطيط المتعدد الأبعاد والقادرة على اقتراح المشاريع المنتجة والمندمجة، وتخلق آليات التنفيذ والتقويم والمتابعة لإنجاح الخطط التنموية.

ختاما نقول، إذا كانت التنمية البشرية عبارة عن خطط متناسقة ومتناغمة هدفها تلبية حاجات وكرامة الإنسان، فإن التربية مدى الحياة عموما، والتربية على التنمية بما فيها تنمية الإنسان والمجال بشكل خاص تشكل المادة الأولية الضرورية لهذه الخطاطات من جهة، و تعتبر هدف وغاية في حد ذاتها من جهة ثانية.

ولقد أصبح من المتعارف عليه اليوم أن قضية التنمية، قضية علم وقضية سياسة في الوقت نفسه، ولم يعد من المقبول أن يتخلف العلم انتظاراً لنتائج التجارب، كذلك لم يعد من المقبول أن تجرب السياسة أو تخطط في غيبة العلم.

فإذا كانت التنمية محصلة للجهود العلمية المستخدمة لتنظيم الأنشطة المشتركة الحكومية والشعبية في مختلف المستويات لتعبئة الموارد الموجودة أو التي يمكن إيجادها لمواجهة الحاجات الضرورية وفقا لخطة مرسومة وفي ضوء السياسة العامة للمجتمع، فإن هناك نماذج وأفكاراً عن التنمية تؤخذ عن الغرب اليوم، دون فحص ملاءمتها موضوعيا وتاريخيا لمجتمعنا النامي، مثال ذلك الربط بين التقدم التكنولوجي في مجال الإنتاج والتنظيم الاقتصادي، في غياب فهم متعمق للتاريخ الحضاري الاجتماعي، ولهذا يجب أن نختبر مدى صلاحية تطبيق الخبرة الغربية على ظروف البلاد   النامية، التي يشكل القطاع الريفي فيها الجزء الأكبر من المجتمع، كما أنه من الملائم، بحث الافتراض الذي يزعم أن التحديث أو التنمية يمكن التوصل إليهما عن طريق تبني التكنولوجيا الغربية، والتنظيم الاقتصادي المصاحب، مع ما يترتب على ذلك من تغييرات توافقية تمتد إلى البناء الاجتماعي والقيمي والتربوي.

كما أن هناك علاقة متبادلة بين مقاييس النمو الاقتصادي ومقاييس النمو الإعلامي، بمعنى أنه كلما زاد الدخل القومي للفرد والتحضر والتصنيع، زاد أيضاً تعلم القراءة والكتابة ومعه توزيع الصحف"، وتوزع وسائل التربية والتعليم في البلد المتقدم بالتساوي النسبي بين أقل القرى والمدن بينما يهبط هبوطاً حاداً في البلد المتخلف في وجوده

ونسبه بين المدن والقرى،  ولما كان لمثل هذه الوسائل الدور الكبير في توسيع الآفاق وتركيز الانتباه، ورفع تطلعات الفرد وأمانيه عالياً، وتوسيع رقعة الحوار الخاص بخطة ما،

وفرض الأوضاع الاجتماعية وتربية الذوق العام وتوجيه الاتجاهات القومية توجيها طفيفاً نحو الغاية المرجوة عن طريق تقريبها البعيد وتبسيطها القريب، فهي تعتبر الجسر الذي يعبر بين المجتمعين التقليدي والعصري.

لهذا اتجهت الدول في سياستها التربوية وفي خططها وبرامجها إلى ربط التربية بالإنتاج لأن العلاقة بينهما أصبحت واضحة وتحتمها ظروف التطور.

كما اتجهت إلى التأكيد على أهمية التعبئة العلمية والتخطيطية الدائمة للموارد الإنسانية كافة (رجالاً ونساءً) باعتبارها من أهداف السياسة الإنمائية الرئيسية للإفادة من جميع هذه الموارد البشرية في دفع العمليات التنموية لتحقيق التنمية الشاملة.

كما إن الاهتمام المحوري بالتقاليد، كمسألة مركزية لكل من الخصائص الكيفية والكمية للحياة الحديثة، أدى إلى نمو عدد من الثنائيات أو الثلاثيات في علم الاجتماع الكلاسيكي، التي كانت قائمة على التمييز بين ما هو تقليدي وبين  المجتمعات الحديثة، أو بمعنى آخر بين ما هو تقليدي وبين ما هو حديث، وخير ما يمكن أن نضرب به المثل هنا هو: تمييز " تونيز" بين المجتمع والمجتمع المحلي، وتمييز " هنري مين، Henry Maine's" بين المرتبة أو المركز وبين العقد، وتمييز " دوركيم، Durkheim" المبكر بين المجتمعات التي تقوم على التضامن الآلي، وبين المجتمعات التي تقوم على التضامن العضوي.

وقد يقال إن " ماكس فيبر،M. Weber " قد وقف موقفاً مختلفاً إلا أن تمييزه التحليلي الذي أجراه بين الأسس المختلفة لما سماه الشرعية (Legitimation) التقليدي والإلهامي أو الكارزمي والعقلاني القانوني-، قد وضع على أساس افتراض أن العنصر التقليدي في

المجتمعات الحديثة في وضع أضعف بكثير من العقلاني القانوني، حتى أنه قال: إن تفوق الشرعية العقلانية على الشرعية التقليدية هو الذي يحدده اتجاه النمو في المجتمعات الحديثة.

كما يقال أيضاً: إن المجتمع التقليدي مرتبط بآفاق ثقافية حددتها التقاليد، بينما يعتبر المجتمع الحديث دينامياً من الناحية الثقافية، وموجهاً نحو التغير والتجديد.

ويرى " بارسونز، Parsons" أن توازن النسق أو المجتمع يظل قائماً طالما أن العلاقة بين وظائفه المختلفة تظل متوازنة نسبياً.

وهكذا يبدو أن التنمية أو التحديث من خلال هذا المفهوم له اتجاه محافظ، لأن المهم في هذه الحالة هو الحفاظ على التوازن أو استعادته إذا اختل، بينما يرى من لا يقبلون النظرية البارسونزية أن التنمية لا تتعلق أصلاً بوظائف أجزاء النسق، وإنما تتعلق أساساً بتغييرات يجب إحداثها في بناء النسق نفسه على جميع المستويات.

ونؤكد هنا أنه في هذه الحالة لا ينفع اللجوء إلى الدراسات الأوروبية أو الأمريكية التي أجريت على مثل هذه المواضيع نظراً لاختلاف الظروف والتاريخ والواقع المعاصر، واحتمال اختلاف المستقبل أيضاً.

لذا وجب التفكير في وضع منهج جديد يخضع لمنطق ولتجربة ولتاريخ الدول النامية مع التأكيد أنه ليس ثمة مجتمع معاصر مقفلاً أو مستقلاً لذاته.

وتجدر الإشارة إلى أن الإنسان في الدول النامية أصبح يميل الأن إلى امتلاك المعرفة الضرورية والمهارات التكنولوجية التي تضمن له بناء مجتمع إنساني رشيد مجتمع متحرر من الحاجة والاستغلال والاغتراب، وسيبقى هذا الانسان منطلق الإنماء في هذه الدول وهدفه فهو يصنع قدره إذا تضافرت إرادته، وبصيرته وتربيته ومعرفته على هدايته للخطة المستقبلية الفضلى وإذا توافرت الظروف التي تمكنه من تطبيق هذه الخطة تطبيقاً سليماً.

وتمثل المرأة كمورد إنساني في الدول العربية نصف الطاقة البشرية القادرة على العمل والتي هي أحد الأركان الأساسية في التنمية الشاملة والمستدامة باعتبارها العنصر البشري الهام

والدعامة الأساسية في العملية الإنتاجية، وتبدو العلاقة واضحة بين التنمية والتربية والمرأة في تطوير مهاراتها الفنية وترشيد نشاطها خدمة للنشاط الجماعي في الإنتاج.

 فالدعوة إلى تعليم المرأة وتربيتها وتحريرها وإتاحة فرص العمل لها في الدول العربية تهدف إلى تقدم البناء الاقتصادي والاجتماعي العام، كما أن مضمون تحرير المرأة في هذه الحالة يتم من خلال تحريرها من التخلف العام في التعليم والثقافة وفي الكفاءة العملية وفي التنظيم الاجتماعي لتساهم في هذه المجالات مساهمة معللة ولتدعم المشاركة الإنتاجية، وتبرهن عن قدرة فائقة في التعليم والإبداع وفي النهاية تنزع عنها حالة الخنوع والاستكانة الكاملة للخمول الذهني والاجتماعي فتنتقل إلى حالة النشاط البناء في العمل الإنتاجي الخلاق.

ونناقش هنا ما يلي :

  1. المفاهيم التنموية والتربوية: وقد بيّنا رأي العلماء والمفكرين في هذا الصدد.
  2. التربية والتنمية: وقد أكدنا على أهمية التربية وأثرها في العملية التنموية الشاملة، كاشفين دور التربية في تطوير المرأة العربية وفي زيادة قدرتها على الإنتاج لمواجهة التحديات الحضارية.
  3. التنمية والمرأة: وقد سلطنا الضوء على أهمية التنمية التربوية للمرأة العربية ودورها الفاعل في نمو المجتمع والمشاركة في الكفاية الإنتاجية.

وتعتبر المفهومات عنصراً أساسياً في كافة النظريات والدراسات والبحوث العلمية، كما أن التعريف العلمي لها يعد خطوة ضرورية لفتح الطريق أمام فهم الظاهرة المطروحة، ويجب أن يكون المفهوم مرناً ونسبياً ويتسم بالوضوح والدقة والإيجاز.

   وهكذا تتضمن التربية عوامل ومؤثرات متعددة ، مباشرة وغير مباشرة تسهم في إعداد الفرد للحياة في المجتمع بما فيه من وقواعد ونظم ومثل وقوانين وقيم.

لذا بدأت الدول النامية تنظر في مراحل بناء مجتمعاتها وتطوير اقتصادها ونظمها الاجتماعية إلى التربية كقوة من القوى الفعالة في عمليات التنمية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي،  ذلك إن الاستثمار في التربية إنما هو استثمار اقتصادي يدفع ويطور عمليات الإنتاج، هذا فضلاً عن الأهداف غير الاقتصادية التي تحققها التربية في حياة الأفراد والجماعات والمجتمعات.

فالهدف من التربية غرس الأخلاق الإيجابية الطيبة عن طريق التوجيه والتشجيع على البحث عن الحقائق وعن طريق بث الفضائل والتدريب على الدقة في العمل أو التعود على الصراحة والصدق والأمانة

والهدف من التربية أيضاً تنمية الكفاية الاجتماعية في النشء حتى يصبح الفرد قادراً على أن يعيش في جماعة يتعاون معها ويبذل جهده لصالحه وصالحها ويكون مستعداً لخدمتها والتجاوب مع مطالبها الإنسانية والقومية. لذلك فإن اعتبار التربية عملية استثمار اقتصادي في الموارد البشرية مجال هام من مجال الدراسة اليوم، ومن مجالات الإعتبار في تخطيط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وقد أولى  " جون ستيوارت مل " أهمية كبيرة لدور التربية والتعليم وتقدم المعرفة في الارتفاع بمستوى الكفاءة الإنتاجية، وبينّ " ألفرد مارشال" أهمية التربية باعتبارها استثماراً قومياً، بل لقد ذهب إلى أن أثمن ضروب رأس المال هو ما يستثمر في البشر.

ومن هنا جاءت الضرورة التي تحتم المراجعة المستمرة لمناهج التربية وما تزود به الموارد البشرية من معلومات وقيم ترتبط بأنماط الإنتاج والإستهلاك المنشود.

  لقد برزت أهمية التربية في حياة الشعوب، كما برزت قيمتها في تطوير هذه الشعوب وتنميتها إجتماعياً واقتصاديا، وزيادة قدرتها الذاتية على مواجهة التحديات الحضارية التي تواجهها.

وتجدر الإشارة إلى أن التربية تختلف باختلاف الزمان والمكان، فهي تختلف من عصر لعصر، ومن مجتمع لمجتمع، وتتعدد أنماطها ووسائلها.

ومن الواضح ان التربية في أغلب الدول العربية ما تزال أداة إشاعة القيم التقليدية والزائفة والمتناقضة في هذه الدول ، إنها تربية ماضوية تستهدف إبقاء القيم البالية التي أوقعها فيها التخلف ، بدل أن تكون تربية مستقبلية تستهدف القيم الجديدة التي يقتضيها التقدم.

ولا شك في أن الأولوية ينبغي أن تعطى اليوم لتلك الأنواع من التربية ذات الأهمية الحاسمة في التنمية والتي لا تشكل هدراً، أو هدراً كبيراً على الأقل، فالأمية مثلاً أشكال ومراتب، وإزالتها في جميع هذه الأشكال والمراتب ينبغي أن تكون عملاً متكاملاً إذا أردنا حقاً ان نربط بين محو الأمية ومتطلبات التنمية، هذا إذا أردناها أن تكون وظيفية.

ويرى "أرثر لويس" أن فشل السياسات التنموية يرجع إلى تراجع العمليات التربوية وتخلفها، وانتشار الأمية، ذلك أن التنمية التربوية تساهم في خلق الكوادر القادرة على مواجهة متطلبات العمل في جميع القطاعات الإنتاجية.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن التربية والتعليم في البلدان الآخذة بالنمو، يجب ألاّ تقتصر على توفير التعليم النظامي العام ومحو الأمية بل لا بد من أن توفر  خدمات الإرشاد الزراعي، والتدريب والمهارات الصناعية، والتدريب على المهارات القيادية والإدارية، لتجنب المآزق المباشرة في مشكلة ندرة الكفاءات المطلوبة في مواقع حساسة تسبب عادة اضطرابات اقتصادية. ويستلزم الأمر في هذا المجال تحقيق ثورة تربوية يتبناها رواد التربية، وهي ثورة تعيد النظر إعادة كاملة وجذرية في بنية التربية وطرائقها ووسائلها وأطرها، مما يساعد على زيادة إنتاجية النظام التربوي وتخفيض نفقاته العاجلة والآجلة فتضمن للمجتمع وفراً هاماً في هذا المجال، يمكن أن يستغل لإيجاد فرص عمل جديدة وواسعة.

لذا كان على التخطيط الشامل للتربية أن يستجيب لمطالب التنمية الإجتماعية والاقتصادية، أي عليه أن يكون تخطيطاً يتحقق فيه التوازن اللازم بين نماذج التربية والتعليم المختلفة، ولا سيما  النماذج النظرية والأكاديمية والنماذج العملية الفنية والمهنية.

ومن مهام وسائل التربية أن تعجل وتيسر التغير الاجتماعي البطيء والطويل الأمد اللازم للتنمية الاقتصادية وأن تعجل وتيسر على الأخص مهمة تعبئة الموارد البشرية خدمة للمجهود القومي، ويبدو ذلك واضحاً عندما نراقب آثار التربية في حياة الشعوب والمجتمعات، فليست

مشكلة الأمية في الدول العربية مثلاً مشكلة متصلة بالقراءة والكتابة، وإنما هي مشكلة خاصة بالمناخ الثقافي الذي توفره المعرفة وترفع فيه مستوى رغبات الناس وسعيهم نحو تحقيقها.

وهكذا تعتبر التربية بحد ذاتها جزءاً من الاستثمار الاقتصادي، وهي توظيف إنساني تقدر كلفته ومدخوله حسب أسس اجتماعية واقتصادية

فكل تقدم في المعرفة التقنية يؤدي إلى فوائد اقتصادية لا تقل في أهميتها عما يعود على البلاد من تنفيذ أية خطة اقتصادية بالمعنى الاقتصادي المتعارف عليه.

وهكذا نرى أن للتربية دوراً بارزاً في تنمية المورد البشري النسائي في جميع المجالات، حيث تساعدهن على التخلص من أنماط سلوكية متخلفة لتحل محلها أنماط جديدة وعلاقات إجتماعية جديدة تتماشى مع الواقع الاجتماعي الحديث.

ويجب أن تهدف تربية المرأة العربية إلى:

  1. تزويدها بمعلومات تفسيرية وتعليمية عامة بحيث تصبح القاعدة العريضة التي تستند إليها في معرفة الأشياء و الظواهر والنظريات والمبادئ والقيم التي تساعد على حل مشاكلها اليومية، أو مجابهة المواقف التي تواجهها.
  2. زيادة حراكها الاجتماعي في جانبه الإيجابي إذ يزداد دخلها بزيادة ما تتعلم من مهارات معرفية وعملية لازمة لسوق العمل والإنتاج، ويترتب على هذه الزيادة تحسن مركزها في السلم الاجتماعي.
  3. جعلها على صلة مستمرة بالإنجازات الثقافية في المجتمع العالمي و تدريبها على استيعابها وتمثلها لها.
  4. تنمية قدراتها على النقد والتحليل وتدريبها تدريباً مهنياً وافياً لتحسين مكانتها الوظيفية أو لأداء واجباتها أو القيام بمسؤوليات أكبر.

ومما لا شك فيه أن المرأة المتعلمة والمدربة تدريباً سليماً تساهم بفعالية في عملية التنمية، مثال ذلك: هي تستطيع المساهمة في مواجهة المشكلة السكانية وتحقيق ضبط النمو السكاني، كما تستطيع المساهمة بذكاء في عملية ترشيد الاستهلاك والحد من ارتفاع الأسعار.

ذلك أن التربية تمثل الاستهلاك والاستثمار معاً، فهي من ناحية لها أهمية قصوى من حيث منافعها الفورية كما أنها من ناحية أخرى، تسهم في زيادة الدخل مستقبلاً من خلال إمداد المجتمع بمورد بشري نسائي على قدر من المهارات والمعرفة التي تمكنهن من زيادة قدراتهن الإنتاجية مما يساهم في تدعيم سوق العمل وما يحتاجه من قدرة على التخطيط والتنظيم والتنفيذ.

 

التنمية والمرأة :

تعتبر التنمية الاجتماعية عملية تدفق إنتاجي للموارد البشرية في مجال الإنتاج، لأنها تجعل هذه الموارد أكثر قدرة وصلاحية وبالتالي أكثر نفعاً.

وإذا كانت الرساميل المادية عنصراً أساسياً في عملية التنمية إلا أنها لا تستطيع أن تحقق الغاية المرجوة منها في حالة استثمارها إذا لم تتوافر لها الرساميل البشرية المؤهلة اللازمة

للقيام بعملية التنمية، ذلك إنها تحول الإنسان الخام (رجالاً ونساءً) إلى إنسان عامل قادر ونافع، ويعتمد خلق هذا الإنسان على مستوى التدريب والتأهيل الممكن تحقيقه في المجتمع.

هذا ولا يمكن تدريب الإنسان وتنميته إلا إذا كان على قدر من التربية والتعليم والوعي الكافي لإدراك أهميته الذاتية في بناء المجتمع.

لذا أصبحت تنمية رأس المال البشري دعامة رئيسية من دعامات التنمية الشاملة، ذلك أن اكتشاف طاقات الإنسان وقدراته ساهم في زوال كابوس اليأس الذي جثم على صدر البشرية في فترات تاريخية سابقة.

فالإنسان هو الرأسمال بما يحوز من طاقة مصقولة محققة قادرة على إعطاء الثمرة، بل قادرة على الإنتاج.

وقد أدرك المشتغلون بشؤون التنمية الاجتماعية خطورة الجانب الإنساني وجوهريته في هذا المجال، فاتخذوه نقطة البداية وحجر الزاوية، فاهتموا بدراسة المجتمعات وتحليل حضاراتها، وبرصد حاجاتها الحقيقية وبنشر الوعي فيها وباكتشاف الوسائل الملائمة اجتماعياً لاتباعها ضماناً لنجاحها، وبإشراك أفراد المجتمع رجالاً ونساءً في إعدادها وتنفيذها توسلاً لاقتناعهم بها وقبولهم لها وحرصاً على استمرارها.

فإذا أريد للتنمية الاقتصادية والاجتماعية أن تكون ناجحة وأن تقع موقعاً صحيحاً وسليماً، يجب أن تبدأ من الداخل، من الإنسان، من قيمه وتصوراته ومهاراته، بكل تفاصيلها وجزئياتها.

وينظر " هاربسون، Haribson" إلى تكوين رأس المال البشري على أنه عملية قوامها:"زيادة عدد الأشخاص الذين يتمتعون بالمهارات والمعارف والخبرات التي تعظم الحاجة إليها، أي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد".

وهكذا يرتبط تكوين رأس المال البشري بالاستثمار في الإنسان كمورد منتج خلاق، ومن هنا يتضمن تكوين رأس المال البشري: الاستثمار الإجتماعي في التعليم، واستثمارات المشروعات في التدريب.

ويؤمن الاقتصاديون بأن وضع إستراتيجية رشيدة لتنمية الموارد البشرية شرط لا غناء عنه لتحقيق ما تصبو إليه البلاد المتخلفة من النمو الاقتصادي السريع بل لقد أصبح العنصر البشري أمراً ضرورياً ولازماً للتقدم الحضاري بل هو السبيل الأمثل والأفضل، والركيزة الأساسية لنجاح هذا التقدم.

ولما كانت التنمية تعتمد على مقومات ثلاثة أساسيه وهي رأس المال والموارد الطبيعية والموارد البشرية، فإن غالبية الدول النامية تفتقر إلى الإمكانيات المادية، لذا كان عليها أن تعتمد في الدرجة الأولى على جميع مواردها البشرية التي تعتبر جوهر عمليات التطور والنمو.

إن المجتمع الذي يسير في طريق الإنماء في حاجة إلى أن تتوافر فيه المعرفة والمهارة والدراية الفنية والتقنية والتربوية، والوسائل اللازمة لتحليل مشكلاته ودراستها، واتخاذ الوسائل لمواجهتها، والقدرة على المبادرة والابتكار، والطمأنينة على الحاضر، والأمل في المستقبل إلى غير ذلك من الصفات التي تجعل للحياة في هذا المجتمع معنى وقيمه، وتؤدي إلى ترابط أفراده وتمكين الوحدة الوطنية فيه. ومما لا شك فيه أن العنصر البشري هو الأول والأخير الذي يساعد في الوصول إلى هذا المجتمع.

إن أهم ما يجب أن نعنى به في عملية الإنماء والتخطيط الأن في المجتمع العربي هو المرأة، وإن تنميتها، أي زيادة معرفتها ومهارتها، وقدرتها، وتحديد مكانتها ودورها الفاعل في المجتمع ومشاركتها في التنمية يجب  أن تحظى باهتمام بالغ في دراسات التنمية في الدول العربية،

  لذا إن أي محاولة لتحديد العملية التنموية بعيداً عن مساهمة المرأة فيها من ناحية التأثير أو التأثر تعتبر محاولة ناقصة.

إن المورد الإنساني الأفضل هو الانسان العلمي التجريبي، وإن تكوين مثل هذا الإنسان هو الغاية الأخيرة لسياسة إنماء الموارد البشرية، ويجب أن لا ننسى أن الانسان العلمي التجريبي ليس إبن تقدمه الاقتصادي ، ولا وسائل إنتاجه فحسب، ولكنه وليد التقدم الحضاري الإنساني، ووليد ثقافته وقيمه وتربيته أيضاً، وبمعنى آخر إن جميع الاستثمارات الاقتصادية والتربوية ساهمت في تحسين إنتاجه وزيادته.

وإذا كان الإنسان هو منطلق الإنماء وهدفه فإن الاعتماد على مساهمة المرأة باعتبارها مورداً إنسانياً هاماً في عمليات النهوض بالمجتمع، يدعم برامج النهوض ويعمل على إرسائها على قاعدة أوسع وأشمل.

غير أن ولادة الإنماء كانت في حقول السياسة والاقتصاد، فجاء حسابي المظهر لا يهتم بالإنسان كإنسان، ومن الواضح أنه لا يمكن أن نتصور تغييراً في أي جانب من جوانب الحياة يقوم به غير الانسان، كما أنه لا يمكن أن يقدم على هذا التغيير ما لم يتغير هو أولاً تغيراً يتناول تصوراته وعلاقاته وقيمه وغاياته ومهاراته.

إن التنمية الاقتصادية المتزنة هي حركة متصلة بين عوامل الإنتاج المادية وعوامله البشرية بحيث توفر هذه الحركة أحسن المقومات لزيادة الدخل القومي وارتفاع مستوى المعيشة، فالزيادة التي تنجم عن التنمية الاقتصادية تحتاج إلى مواطن كفء لاستغلالها استغلالاً حكيماً يفيده ويفيد مجتمعه ولا يتأتى هذا  إلا عن طريق التربية والتعليم للوصول إلى الكفاية الإنتاجية والاستهلاك الرشيد.

وتجدر الإشارة إلى أن التنمية في حاجة إلى جميع الطاقات الإبداعية، وإن عدم استثمار العنصر النسائي أصبح اليوم مشكلة اجتماعية، لأن المرأة هي الأداة والهدف من التنمية الشاملة. ومن

هنا لو بقيت المرأة تعاني تخلفاً في الفكر والوعي، فإن الخطط التنموية لا يمكن أن تصل إلى غاياتها المنشودة.

وهكذا نرى أن تنمية المرأة جزء لا يتجزأ من عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية فمن أجلها يجب أن ترسم الخطط والسياسات التنموية، لتشارك بجهودها الفكرية والجسدية والتنظيمية في تحقيق أهداف هذه الخطط والسياسات.

ولعله من المفيد أن نؤكد ضرورة النظرة المتكاملة للجوانب الاقتصادية والاجتماعية في رسم مشروعات التنمية وخططها الجزئية الشاملة.

وقد بينت الدراسة التي قمت بها عن المجتمع القروي في لبنان، أهمية الاستفادة من عمل المرأة باعتبارها المورد البشري الهام في تحقيق الكثير من المشاريع التنموية، فهي تنعش اقتصاد الأسرة عن طريق مساهمتها في العمل داخل المسكن وخارجه، كما تقوم في الريف بقدر كبير من المعاملات التجارية مع الغير وفي السوق خصوصاً فيما يتعلق بالإنتاج المنزلي، كما تسهم إسهاما واضحاً في العمل الزراعي.

فالجهد التربوي الذي يستهدف زيادة الإنتاج، يتطلب تقديم نوعين من التعليم والتدريب:التدريب الفني الذي يؤدي إلى زيادة الإنتاجية مباشرة.

  • التعليم العام الذي يبدأ بمحو الأمية والذي يساعد في تطوير عقلية المرأة وخلق القدرة لديها على التكيف والتجديد، والتي تؤدي على المدى الطويل إلى تطوير بنية المجتمع وزيادة إنتاجية العمل.

هذا وعلى الرغم من تبدل المفاهيم القروية الخاصة بتعليم الإناث في الدول العربية، إلا أن الأسرة الريفية لم تتخلص نهائياً من النظرة التقليدية إلى تعليمهن، وهنا تبدو الحاجة الواضحة لضرورة التركيز على مدى ما تستطيعه النساء من المساهمة في برامج تنمية المجتمع إذا تعلمن ودربن على الأمور التي تتصل بمطالبهن وما يهدفن إليه.

إن عملية الإنماء إنما هي عملية تغيير جذري في نفسية المرأة وطباعها  وأفكارها وعاداتها وتقاليدها ونظرتها إلى الحياة، وأي تغيير شامل من هذا النوع يطرأ على المرأة يحتم عليها تغييراً في شخصيتها، فهو يساهم في تعزيز مركزها الاجتماعي والقيادي

وتحسين مكانتها فيخرجها من مرحلة الانعزال عن المشاركة في الحياة العامة إلى الاشتراك الفعلي البناء في تنمية مجتمعها في جميع أوجه نشاطاته.

لهذا نرى أن سياسة تنمية المرأة باعتبارها مورداً بشرياً هاماً لا يمكن أن تكون سياسة نظرية تنطلق من بعض المعطيات والحقائق العامة المستقاة من تجارب دول أخرى معظمها متقدمة، بل لا بد من أن تكون استراتيجية التنمية هنا استراتيجية عملية تنطلق من المشكلات الفعلية والراهنة للمجتمع الذي تعيش فيه بعد أن أصبحت المرأة اليوم في معادلة هذه التنمية وسيلة وغاية في نفس الوقت كما أصبحت عنصراً من عناصر الإنتاج والتنظيم، عليها يتوقف نجاح عمليات التنمية وفشلها وإليها تعود ثمراتها ونتائجها.

وأخيراً يجب أن يعتمد في تنمية القوى النسائية على مخطط التنمية القومية بحيث ترتبط ارتباطاً عضوياً ومخططاً بالتنمية القومية الشاملة التي تشمل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية في إطار بناء قومي منسجم ومتلاحم.

ومعنى هذا إن نظام إنتاج المهارات النسائية يجب أن يصمم بحيث يتحمل أعباء متعددة، وأن يبنى بناءً مرناً يمكنه من تحمل هذه الأعباء والمسؤوليات.

ولعله من المفيد التأكيد على أنه إذا كانت العدالة من أهم مبادئ التنمية، فإن تحقيق التنمية على أساس العدالة يتطلب اتخاذ تدابير عاجلة تهيئ للنساء فرصاً أوسع وأفضل للعمل وتخفيف وطأة المعاناة الملقاة على عاتق الملايين منهن للمشاركة في البرامج التنموية.

إن التطورات الكبيرة التي تمر بها المجتمعات البشرية في عصرنا الحاضر تحتاج إلى إعادة نظر في نظمها وطرق حياتها، لتحديد نواحي القوة والضعف في شتى جوانبها بهدف الإصلاح والتطوير.

ومما لا شك فيه أن إعادة النظر في بنية التربية وأطرها ووسائلها، من أهم وسائل تحقيق هذه الغاية وقد اعترف المدخل الشامل للتنمية بأهمية التربية كحاجة إنسانية أساسية، وكوسيلة تعاون بين الناس على مواجهة الحاجات الإنسانية الأخرى، وكنشاط يدعم التنمية ويدفع عملياتها في الطريق الصحيح.

ولتحقيق أهداف التنمية وأغراضها يتطلب ذلك إخضاع العملية التربوية للتخطيط العلمي الواعي، على أن تدار هذه العملية إدارة علمية عقلانية متحررة من الأطر الجامدة الممثلة بالبيروقراطية الخانقة، مما يدعو إلى اعتماد طرائق عديدة ومتنوعة ومرنة تتلاءم مع طبيعة المهمات التي وجدت من أجلها، مع مراعاة ربط الأهداف التربوية بالعوامل التكنولوجية والبشرية المتاحة والالتزام بتعليم المجتمع ككل كهدف تربوي رئيسي يتم تحقيقه عن طريق الاستعانة بأشكال متعددة من الإعداد والتدريب التربوي تساعد الإنسان في التغلب على مشكلاته والعمل على تذليلها للمساهمة في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.

ولقد فرضت التقاليد على المرأة في بعض الدول العربية أن تكرس حياتها لتربية الأولاد وشؤون المنزل، وإن وجدت فرص للعمل فهي محدودة وفي مجالات تقليدية لا تسمح لها إلا بقدر محدود من الابتكار والمهارات، ويرجع ذلك أساساً إلى تناقص فرص التعليم والتدريب التي خصصت لها والتي تمكنها من أداء عملها بجدارة للمساهمة في مشاريع التنمية القومية الشاملة، هذا بالإضافة إلى أن ذلك يحرم المرأة من تحقيق ذاتها وتأكيد شخصيتها المستقلة.

ومما لا شك فيه أن المرأة سوف تلعب دوراً هاماً في العملية التنموية بعد تحررها من سيطرة هذه التقاليد الجامدة، وبعد نيلها قسطاً وافراً من التعليم والتربية، مما يتيح لها الفرص السانحة لإيجاد عمل يساعدها على المشاركة في إنجاز المشروعات والبرامج التنموية والاجتماعية والاقتصادية بجدارة.

وهنا تلعب وسائل الإعلام الدور الكبير والفعال في توعية الجماهير وفي تسليط الضوء على دور المرأة عموماً في عملية البناء الاجتماعي والاقتصادي، كما تساهم هذه الوسائل في إحداث تغير في نظرة المرأة إلى ذاتها فتساعدها على الثقة بنفسها بحيث تقدّر دورها في الأسرة والمجتمع فتقبل على المساهمة بفعالية في زيادة الإنتاجية في العمل، والمشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية بجميع جوانبها.

من هنا نرى ضرورة توفر مرشد تربوي ومهني تنحصر مهمته في توجيه المرأة إلى اختيار العمل الملائم لنموها وقدراتها، ويكون قادراً على توضيح الخيارات المطروحة أمامها في مجتمع سريع التغير، أي عليه أن يتذكر الماضي ويعيش الحاضر ويترجم المستقبل.

وقد أدركت هيئة الأمم المتحدة ما لقضية حقوق المرأة، ووجوب تمكينها من التمتع بها من أهمية بالغة في المجتمع الإنساني، باعتبارها تمثل نصف الجنس البشري، فأصدرت في عام 1967 إعلاناً عالمياً تضمن حقوق المرأة الأساسية فأكدت فيه على وجوب تمتعها بكامل تلك الحقوق، كما خصصت الأمم المتحدة عام 1975 كعام دولي تحتفل به شعوب العالم من أجل التأكيد على حقوق المرأة في التربية والتعليم والعمل والنشاط السياسي والاجتماعي كافة.

وعلى الرغم من أن ظروف المرأة في المجتمع العربي خلال الأعوام الماضية قد تعرضت إلى تغييرات جوهرية أحدثتها بعض النظريات التقدمية التي تتناول دور المرأة في المجتمع،

إلا أن هذه التغييرات خلقت الكثير من المشاكل خاصة عندما مسّ الجديد المعتقدات والقيم والعادات القديمة الراسخة.

هذا وتجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من أن مكتب العمل الدولي قد أقر عام 1985 الاتفاقات الخاصة بالمساواة في الأجر بين العمال والعاملات بالنسبة إلى العمل الواحد، فإن قوانين العمل في بعض الدول النامية لا تزال حتى الأن لا تساوي بين الرجل والمرأة مساواة فعلية في العمل نفسه، وإذا تمت المساواة في بعضها، فإن تطبيق القوانين يتخطى جوهر هذه المساواة.

ولقد اهتم علماء الاجتماع والتربية بدراسة دور العملية التربوية في تنمية المرأة انطلاقاً من مبدأ الاهتمام بالعنصر البشري كهدف للتنمية ووسيلة لها في آنٍِ معا، وقد شغلت المرأة بال الدارسين والمهتمين بشؤونها في البلاد العربية، أملاً في النهوض بهذا المجتمع وسعياً إلى مشاركة فعالة في تطويره، وقد تبين لهم أن ذلك لا يكون إلا إذا توافرت الظروف التربوية المناسبة لها لكي تنتج وتعطي وتبدع، ونحن لا نستطيع تصور مجتمعٍ ينمو مخلّفاً وراءه نصف أفراده من النساء في حالة تخلف، لأن تخلف المرأة لا بد أن يترك آثاراً سلبية على أسرتها وجماعتها ومجتمعها.

لذا لا بد من توجيه المجتمعات نحو الأخذ بسياسة تنموية تؤدي إلى تخليصه من العادات والتقاليد المضادة لتربية المرأة وتنميتها حتى تشارك في الحياة الاجتماعية مشاركة فعالة.

وينبغي مواجهة كافة المعوقات والتحديات التي تقف حجر عثرة أمام الاستخدام الفعلي لطاقات المرأة في المجتمع، مما يتطلب مواجهة جميع الاتجاهات السلبية التي تحد من عملها، ولعل التنشئة الاجتماعية الأسرية مسؤولة عن تنمية الاتجاهات الإيجابية نحو الدور الفعال للمرأة في المجتمع.

كما لابد من تطوير قدرات المرأة القيادية، وخلق الوعي لدى النساء بحقوقهن المشروعة وتشجيع اقتسام موارد الأسرة ومسؤولياتها بالعدل بين الرجل والمرأة حتى تلعب دوراً رئيسياً في خدمة أسرتها ومجتمعها ولا يكون ذلك ممكنا إلا إذا زودت بالمعلومات المناسبة والثقافة الاجتماعية الملائمة مما يساهم في تخفيف الأعباء التي تؤديها فتزداد فاعليتها ويثمر إنتاجها،

ومع العلم أن تربيتها وتنميتها تتطلبان المزيد من الجهود المستديمة والمبادرات الجريئة وهي مطالب تفرضها روح العدالة والإنصاف ومنطق التقدم ومقتضيات الديمقراطية والتنمية الاجتماعية الشاملة.

ومما لا شك فيه أن الربط بين حاجات التربية وحاجات سوق العمل وبين الحاجات الفعلية للطاقات العاملة أصبح ضرورة ملحة، مع الأخذ بعين الاعتبار تغير المجتمع السريع والذي تتغير فيه المعرفة ووسائل الإنتاج والوسائل التكنولوجية وبالتالي مطالب سوق العمل.

ويجب أن تتضمن البرامج التربوية اتجاهات العصر ومقتضياته، وحاجات المرأة العربية ومطالب نموها، فتتناول الأهداف المتصلة بالمعرفة والأهداف المتصلة بالمهارات والأهداف المتصلة بالتفكير العلمي، والأهداف المتصلة بالميول والاهتمامات، والأهداف المتصلة بالاتجاهات والقيم، كما يجب أن تلتحم فيها مطالب تكوين المرأة مع مطالب تكوين المجتمع، مع الأخذ بعين الاعتبار واقع المجتمع العربي ومتطلباته.

هذا ومن الضروري إعادة النظر في النظام التربوي وموضوعاته وطرائقه وإداراته من أجل مردود العملية التربوية، مما يساعد على مواجهة مشكلات التربية سواء كانت كمية أو نوعية، ولمعالجة أزمات المرأة العربية على أن يبقى التواصل والاطلاع على أزمات المرأة على المستوى العالمي مستمراً، مع التأكيد على ضرورة بناء إمرأة عربية، متفاعلة مع عصرها قادرة على تحليل واقعها ونقده، عاملة في بناء مجتمعها في جميع جوانبه.

وتؤكد الدراسات الاجتماعية للمجتمع العربي، وحدة مشكلات وجود المرأة العربية وتناقضاتها، وتشابه مآسي عيشها وقدرها وتحدياتها لواقعها، وتفاعل ثقافاتها ومعتقداتها، وتلاقي عاداتها وتقاليدها العربية بحوافزها ووظائفها ومضامينها، مما يدعو إلى إيجاد نظام تربوي مرن وشامل للمرأة العربية، تستفيد منه في تحديث واقعها الاجتماعي، ويسهل تطبيقه في جميع أنحاء الوطن العربي على أن يكون هذا النظام قادراً على تحريك قوى الإبداع والتساؤل لديها وإثارة قدرتها الذاتية على الاكتساب والعطاء والمعرفة، وتكون وظيفة التربية هنا إصلاح المجتمع وتطويره وتحسين أوضاعه الراهنة، وهذا يتم عن طريق تحليل التراث  وتنقيته من شوائب الضعف والفساد فيه، قبل أن نقوم بنقله إلى جيل الناشئين، ونحن لا نستطيع أن نغير ونؤثر إلا إذا عرفنا واقعنا الذي نسعى إلى تغييره فعلاً.

كل ذلك يساهم في مواجهة مشكلات التربية ومعوقاتها سواء أكانت كمية أو نوعية، كما يساعد في بناء إمرأة عربية متمسكة بحضارتها وثقافتها وتراثها.

وستبقى التشريعات الاجتماعية والقانونية وحدها القادرة على حماية المرأة العاملة ومساعدتها في المساهمة بفعالية في العملية التنموية، على ان يواكبها تهيئة المؤسسات المختلفة والخدمات التي يمكن أن تساهم في تخفيف الأعباء الملقاة على عاتقها.

وستظل المرأة هي أجدر وأفضل محامٍ مدافع عن حقوقها وكرامتها، تقوم بذلك إنطلاقاً من سلوكها وأخلاقها، وارتكازاً على كفاح متواصل ضد مفاهيم سيئة وأحكام مسبقة ونوايا جائرة وظالمة وقعت عليها.

وعلى المرأة أن تدرك أهمية التربية التنموية بالنسبة لها وبأنها عملية مستمرة لا تنتهي بزمن معين ولا بعمر محدد، ولا بمرحلة دراسية معينة، وإنما تمتد على مدى عمرها الطويل حتى تتسع ثقافتها وتنمو وتقوى معرفتها، وتثرى آفاقها.

والمرأة حين تنجح مطلوب منها الإصلاح والإبداع والتغيير في ذاتها وفي ذات المرأة الأخرى فالتي نجحت وتسلحت بالوعي والثقافة والتجربة لديها الكثير لتقوله وتغني به ذات المرأة العادية التي لم تتمتع بالظروف والفرص ذاتها، كذلك على المرأة العادية أن تكون مؤازرة للمرأة الناجحة وأن تنظر إليها بإعجاب وتسير على خطاها.

وقد ذكرت منظمة العفو الدولية في بيان لها في لندن بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، أن أوضاع حقوق المرأة في العالم تختصر بوعود لم تتحقق ومفارقات شديدة مع البلاغات الفصيحة للأسرة الدولية.

هذا مع العلم أن النساء يذهبن بعيداً في السعي للتفوق ومضاهاة الرجل حتى في ميادين يحاول احتكارها لنفسه، على الرغم من تشكيك البعض في قدرة المرأة على ممارسة بعض الأعمال التي يمارسها الرجل حتى لو أعطيت كل التسهيلات والضمانات لإبراز قدرتها ومواهبها وإمكانياتها.

فحين تنهار المجتمعات تضطلع النساء بدور دقيق في استمرار الحياة وفي بناء الجسور مكان الأسوار، مما يبين أننا لا نستفيد من ثرواتنا المادية إلا بمقدار ما نستفيد من ثرواتنا البشرية النسائية التي تتدفق منها وعلى يديها جميع الخيرات.

لذا لن تتحقق التنمية الشاملة في المجتمعات إلا إذا أزيلت جميع العوائق التي تقف في وجه تربية المرأة وتنميتها حتى تصبح قادرة على المشاركة الفعلية في صنع القرار، وستبقى عمالة المرأة وما تقتضيه من تهيئة تربوية وتدريبية مرتبطة أشد الارتباط بحاجة التنمية للارتقاء بمستوى الإنتاج القومي، كما ستبقى مقياساً لتقدم الدول أو تخلفها.

إن الحديث عن المستقبل، يضعنا أمام أنفسنا، أمام واقعنا المعاش، والحديث عن الغد هو حديث عن أطفال يولدون اليوم، والحديث عن الطفولة هو حديث عن التنمية والتي تعني تنمية الظروف المادية للحياة وتنمية الجوانب الروحية والثقافية سواء بسواء. وهكذا لايمكن الحديث عن تنمية دون الحديث عن التربية. فهي أساس التنمية وركيزتها، فالمفهومان لابد أن يتقاطعا في نقطة واحدة وأن تتحد مسيرتهما على خط تصاعدي في حركة التطور. وإذا لم يحصل التفاعل والانسجام بين التنمية والتكوين الدراسي للطفل فلن يمكن الحديث عن المستقبل. لأن الطفل لازال نسبيا في نظرة مجتمعنا مجرد مخلوق بريء يدخل السرور ويثري الحياة الزوجية بنكهة خاصة، الطفل في مجتمعنا الحالي لم يرق في وجداننا إلى ذلك المستوى المطلوب ليصبح قضية وهاجسا.

لقد كان أكبر دليل على العلاقة القائمة بين تنمية المجتمعات والتربية أو الثقافة ماجاءت به التوصية رقم 27 من إعلان مكسيكو أثر المؤثمر الدولي للسياسات الثقافية الذي عقد بإشراف اليونسكو في المكسيك سنة 1982 : » إن الثقافة تشكل جزءا جوهريا من حياة كل فرد وحياة كل جماعة وأن التنمية التي يجب أن يكون هدفها الأول منصبا على الإنسان، يجب أن يكون لها بعد ثقافي ». فبدون تربية لايمكن الحديث عن الغد، والأطفال في كل أمة يشكلون نصف الحاضر وكل المستقبل، وكل الجهود يجب أن تنصب على عملية التنشئة الاجتماعية. والتنشئة تعني العمل للمستقبل. والوقفة المستقبلية تلائم التربية كل الملائمة. ولنعين المعنيات ببعض المسؤولية والموضوعية لكي لانقع في مملكة الأوهام. لن يخرج عالم الغد من المدرسة حتى لو أخدت في أوسع معانيها، فالمدرسة واحد من عوامل التطور المجتمعي، ولكنها ليست العامل الوحيد، ومفهوم الإعداد يجب أن ينفسح على نحوين : إعداد عالم الغد وإعداد الأطفال لعالم الغد .وعالم الغد هذا الذي يتحدث عنه ميالاريه ليس العالم العفوي التلقائي، بل عالم مخطط له بشكل جيد وذلك عن طريق عملية التنشئة الاجتماعية وتربية فعالة تضمن كل الحقوق والواجبات لأطفال اليوم.

إن دراسة من هذا النوع حول التربية والتنشئة الاجتماعية والتي تنتمي إلى حقل سوسيولوجيا التربية ليس بالأمر السهل، وذلك لانعدام الدراسات الجادة في الميدان في مجتمعنا. حول الطفل والتربية، وليس من المنظور البيداغوجي والاستراتيجيات المفاهيمية التعليمية كما يرى ذلك علماء التربية، بل يجب أن تدرس وتؤخد بعين الاعتبار ليس فقط ميكانيزمات التلقين وكيفية التعليم، ولكن كل ما يتعلق بالمؤسسات التي تؤثر من بعيد أو قريب على تنشئة الطفل، وسوسيولوجيا التربية هو ذلك العلم الذي يطبق مبادئ علم الاجتماع على التربية ويعتبر أن التربية تمارس تأثيراتها لا في المدرسة وحدها ولكن من خلال مؤسسات اجتماعية أخرى متعددة مثل الأسرة والبيئة المحلية والمجتمع القومي وما يوجد فيه من وسائط ثقافية أخرى. وميدان سوسيولوجيا التربية يتميز بالانفتاح والنقد والتساؤل المنظم حول الشروط  سوسيوثقافية العلمية لاكتساب المعرفة ومن هنا نصل إلى القول بأن البحث في التربية يتجه نحو وضع المؤسسة التعليمية والأسرية وغيرهما من القنوات التربوية موضع تساؤل مستمر، وسوسيولوجيا التربية كفرع من فروع علم الاجتماع تتميز بتعدد القضايا التي تشتغل عليها وبقوة نقدها ويقظتها المعرفية وهدفها التطوري والقفز عن كل سلبيات الحاضر، فالاهتمام بقضايا التربية هو قديم قدم التفكير الإنساني نظرا لما تشكله من دور فعال وثقل في تطور المجتمعات، إنها باختصار المرآة التي تعكس الصورة الحقيقية لأي مجتمع كان. والتربية ظل يطبعها دائما طابع العمومية والمثالية حتى ظهور المجتمع الصناعي حيث أضحت الحاجة ضرورية لظهور مؤسسات تهتم بعالم التربية والتنشئة الاجتماعية وعلى رأسها المؤسسة التعليمية كمتمم لدور الأسرة وكبديل في بعض الأحيان.

والدارس في حقل سوسيولوجيا التربية يجد نفسه دائما أمام تساؤل مستمر عن علاقة التربية بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وكل المؤسسات الاجتماعية التي تهدف إلى تنشئة الطفل، وكلها عوامل تتميز بكثير من التداخل والتناقض وعدم الوضوح. إن بدايات هذا العلم وتعريفه تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، ومع دروس دوركايم والتي نشرت بعد وفاته تحت عنوان التربية الذهنية، والتي ضمت تعريفا للتربية كما تضمنتها أيضا مؤلفاته الأخرى، إلى جانب دراسات بول لابي حول المدرسة والحراك الاجتماعي وكذا سوروكين. كما صادف كارل ماركس أيضا المدرسة في تحليلاته الاقتصادية في رأس المال وعند نقده لمخطط كوتا. كما عالج ماكس فيبر أيضا العلاقات والروابط بين أنواع تنظيمات السلطة وأنواع الأفكار التربوية في الاقتصاد والمجتمع.

إلا أن دوركهايم كان الأكثر تأثيرا باتجاهه الإصلاحي الإنساني حيث يحدد موقفه من التربية على أنها شيء اجتماعي.يعني أنها تضع الطفل في وضع مباشر مع مجتمع محدد، وأنها تطبيع اجتماعي . ويضيف دوركايم في تفسيره لماهية التربية فيقول : التربية هي الفعل الممارس من طرف الجيل البالغ على الأجيال التي لم تتأهل بعد للحياة الاجتماعية وهدفها أن تنمي في حالاته الفيزيائية والثقافية والذهنية التي يحتاجها هو والمجتمع السياسي في مجمله والمجال الاجتماعي الذي ينتمي إليه. والتطييع الاجتماعي الذي يتحدث عنه دوركايم هو تلك الآلية التي يتم من خلالها دمج الناشئة ضمن نسيج نمط حياة سائد في المجتمع.وفق متطلبات كل نمط وتوافقاته العلائقية والمعرفية. والتطبيع الاجتماعي عملية ثنائية الجانب :
  استيعاب الناشئة للتجربة الاجتماعية بالدخول في البيئة الاجتماعية. في نظام العلاقات الاجتماعية.
  عملية تجديد انتاج نظام العلاقات الاجتماعية من طرف الناشئة.

ويؤكد دوركايم على دور الدولة في الإاشراف على التربية باعتبارها الساهرة على تسيير المؤسسات التربوية لخلق ذلك الانسان المطلوب والمرغوب فيه اجتماعيا. ولذا يرى دوركايم أن هدف التربية تحقيق الإنسان لا كما خلقته الطبيعة. وإنما هو الإنسان كما يريد المجتمع أن يكون. ولذلك فهو يقول : في كل منا يوجد كائنان لا يمكن الفصل بينهما إلا على نحو تجريدي، أحدهما نتاج كل الحالات الدهنية الخاصة بنا وبحياتنا الشخصية وهو مانطلق عليه الكائن الفردي، أما الكائن الآخر فهو نظام من الافكار والمشاعر والعادات التي لا تعبر عن شخصيتنا بل عن شخصية الجماعة والمجتمع الذي ننتمي إليه كالعقائد الدينية والممارسات الأخلاقية والتقاليد القومية والمشاعر الجمعية من أي نوع، وهي تشكل في مجموعها الكائن الاجتماعي الآخر. وبناء مثل هذا الكائن الاجتماعي يمثل في نهاية المطاف هذف التربية وغايتها.

وهناك اتجاه آخر في التربية وهو اتجاه اقتصادي في التربية ويعني الاستثمار في التربية حيث لجأت بعض المجتمعات إلى جعل التربية في خدمة الاقتصادي وهو ما أفقد التربية قيمتها الثقافية والانسانية وجعلها ماكينة لإتناج روبوات جاهزة لسوق الشغل.بعيدا كل البعد عن المعايير الاخلاقية التي تنبني عليها التربية. بل يركز هذا الاتجاه فقط في تلبية حاجيات السوق.مما جعل التربية في مفترق الطرق بين اقتصاد السوق والتنشئة الاجتماعية.

إلا أن قصور الاتجاه الأول إن لم نقل فشله. لدوره المحافظ. وكذا احادية التأثير التي دعا إليها. وهذه الاحادية تتمثل بتوجيه عملية التطبيع الاجتماعي العلائقي من المجتمع إلى الفرد فقط. وأيضا فشل الاتجاه الثاني تربويا. أدى إلى ابراز أهمية اتجاه آخر احتل مكانة مرموقة في تاريخ سوسيولوجيا التربية وهو الاتجاه النقدي الذي يمـثـلـه رائـــــداه باسرون وبورديو حيث يؤكد ذلك فرانسوا دوبي بقوله : فرضت سوسيولوجيا التربية كما عرضها بورديو و باسرون في كتابهما الورثة نفسها كأنمودج فعلي، أنها نظرية كلية يتحدد اتجاهها كل واحد مؤيدا كان أم معارضا لها وينبغي فعلا أن نعترف بأن جل علماء الاجتماع كانوا ولمدة طويلة مؤيدين لهذه النظرية. معتبرين أعمالهم إما كامتداد أو كتوضيح لها، كما هي معروضة في كتاب إعادة الانتاج إنها قلب نـقـدي للمـفاهــيـم الكـلاسـيـكـيـة عـــن الــمدرسة والتربية . إنها نظرية من القوة بمكان، بحيث لم تعوض بأية نظرية آخرى في مثل صلابتها وتماسكها ورحابتها، وكل عالم اجتماع التربية، وهو يمر عبر هذه النظرية يستفيد منها ويقارن داته اتجاهها. إذ لاوجود بالفعل لنظرية آخرى هي في الآن نفسه، نطرية عن المدرسة، ونظرية عن الحركية الاجتماعية ، ونظرية عن المجتمع ونظرية عن الفعل، لقد انطلق الباحثان من مفاهيم ماركسية كمفهوم صراع الطبقات واعادة الانتاج والاستغلال، حيث تمت دراسة التعليم ودوره في الاقتصاد والانتقاء والتهميش للطبقات الدنيا… إلاأن المشهود لهم هو اثارتهم لمواضيع مهمة ومعقدة ومسكوت عنها باستفادتهم من الإرث الماركسي للكشف عن أسرار الظاهرة التربوية بمختلف جوانبها. واعتمدوا حصائيات ميدانية عن علاقة المدرسة بالوضع الاجتماعي وكان كتابهم الورثة زاخرا بالاحصائيات والنتائج عن ولوج الطلبة للمعاهد والجامعات. إن أساس الارث الثقافي ينتقل بطريقة غير مكشوفة وغير مباشرة وفي غياب أي مجهود منهجي أو أي فعل ممارس.وهو دليل على التفاوتات المعرفية بين الطلبة المنحدرين من عائلات ميسورة وأولئك الذين ينتمون إلى طبقات مهمشة، ويضيفا، أن الاختلاف الذي يفصل بين الطلبة في ميدان الثقافة الحرة يعود دوما إلى مواهب أو تفاوتات طبقية.

وبذالك يرون على أن الفوارق الاجتماعية والطبقية ترجع أساسا لعدم وجود تكافؤ فرص ولوج المدرسة، ويواكبان فيما بعد خيبات الأمل الناتجة عن ظاهرة تعميم التعليم على مختلف الشرائح الاجتماعية، ولكن لاسبيل كما يرى الباحثان من الدرسة باعتبارها الطريق الوحيد بالنسبة لابناء الطبقة المهمشة لولوج عالم المعرفة، وفي الآخير المدرسة لا يمكنها إلا أن تضمن وترسخ بقوة واقعا طبقيا.

إضافة إلى هذين الباحثين باعتبارهما رائدين لسوسيولوجيا التربية الفرنسية نجد باحثا آخر وهو رايمون بودون بكتابه الشهير اللامساواة في الحظوظ يحاول من خلاله ايجاد العلاقة بين التربية والحراك الاجتماعي أي عدم تكافؤ الفرص بالنسبة للتعليم والحراك الاجتماعي في احتمالية ولوج مختلف المستويات السوسيومهنية، أما المقاربة المنهجية فتحدد في تحليل الانساق كما يصرح بذلك بودون فيقول : نعتمد منظور تحليل الانساق، وننطلق من مبدأ أساسي يعتبر بأن اللامساواة في الحراك الاجتماعي نتيجة مجموعة معقدة من المحددات التي لا يمكن عزل بعضها عن البعض الآخر، وإنما يتعين النظر إليها كنسق. وفي تحليله للحراك الاجتماعي وعلاقته بالتطور يستدل بدراسات سوروكين نتيجة في هذا المجال فهو يعتبر الحراك الاجتماعي نتيجة معقدة لتصفية الأفراد بواسطة متتالية تحددها المؤسسات الموجهة وطبيعة وعدد وأهمية هاته المؤسسات تختلف من مجتمع إلى آخر. إلا أنه يجمع في الأخير على دور المؤسسة الأولى الأسرة وكذا المدرسة في عملية الحراك الاجتماعي أو عندما يتعلق الأمر بتحديد المستوى الثقافي والمدرسي وبصفة عامة المؤهلات المدرسية للطفل.

إلا أن سوسيولوجيي التربية يجمعون على أن التربية والتنشئة الاجتماعية للناشئة لايمكن تحقيقه إلا في إطار علاقات تبعية متبادلة بين جميع مكونات المؤسسات التوجيهية الساهرة على التربية والتنشئة ويصلون في الأخير إلى اختزال هاته المؤسسات في اثنان المؤسسة الأسرية، المدرسية ثم تأثيرالبيئة الاجتماعية، إلا ان التبادلات أو العلاقات بينهما ليست دائما محققة ولها نفس الهدف. ولكن في أفق تحقيق هاته التربية المأمولة تبقى أيضا العلاقات سارية المفعول بينهما ولو بشكل متفاوت.إلا أن عوامل التربية تختلف حسب سن الطفل بحيث تكون الأسرة ذات أهمية في السنوات الأولى من حياة الطفل، ثم تقسم المدرسة هذا الدور مع الأسرة بعد ذلك في سن متوسط ثم تأثير المحيط الاجتماعي في وقت متقدم. لهذا يجد الطفل نفسه متمركزا بين مؤسسات مختلفة كل واحدة تعتبر نفسها كمركز بالنسبة للمؤسسات الأخرى وظهور هذه المؤسسات جاء نتيجة رغبة المجتمع في تنظيم مقاطع داخل المجتمع بهدف معالجة إشكالية التربية وتجلياتها التي ينبغي تنظيمها وتأطيرها.

فالتربية إذن من خلال هذا الشكل هي تفاعلات عديدة ومتبادلة بين مؤسسات المجتمع، فهي تهدف إلى إعداد الكائن الاجتماعي، ويرى دوركايم في كتابه قواعد المنهج السوسيولوجي انها المسؤولة عن إتاحة فرص النمو لكي يتحقق في هؤلاء الأفراد ألوانا من الفكر والعاطفة والسلوك، التي ما كان يستطيع تمثيلها بنفس الدرجة والمستوى لو ترك وشأنه، ويضيف أن الموضوع الحقيقي للتربية ليس شيئا آخر غير إعداد الكائن البشري، والتربية عملية تعليم وتعلم لأنماط متوقعة من السلوك الإنساني فهي بذلك عمل إنساني وليست شيئا يمتلكه الأفراد ولكنها عملية لها مراحلها وأهدافها، والطفل يرث بعض الأسس البيولوجية عن الآباء ولكنه يكتسب المكونات النفسية والاجتماعية لشخصيته عن طريق التربية، ليكون عضوا فعالا داخل المجتمع. وهو تعبير عن اجتماعية التربية، حيث يتمثل عطاء التربية للمجتمع من خلال :

  إعداد النظم الاجتماعية بالقوى البشرية.
 تطوير ثقافة المجتمع.

الضبط الاجتماعي : ويعرفه جورج كورفيتش بأنه : مجموعة النماذج الثقافية والرموز الجمعية والمعاني الروحية المشتركة والقيم والأفكار والمثل وكذلك الأعمال والعمليات المتصلة بها مباشرة والتي بها يستطيع المجتمع والجمع وكل فرد أن يقضي على الصراع والضيق الحادثين في داخله عن طريق اتزان مؤقت. وأن يتخد خطوات نحو جهود مبتكرة ذات آثار فعالة.

والتربية تأخد بعين الاعتبار الفرد من كل النواحي : المعرفية، العاطفية والتأثيرية، وشخصية الفرد المعاصر شخصية متعددة الأوجه معرض لأنظمة أدوار مختلفة منغلقة ومتطورة، مطالب بإمكانية الاختيار والتي في مجملها متضادة تجعل كل محاولة من الخطر بمكان من أجل تحقيق مستقبله في ظل ترسيمات احتمالية . ويرى جون ديوي أن للتربية ثلاث أهداف : التطور الطبيعي والفعالية الاجتماعية والثقافة وتربية المجتمع هي تربية عقلية بالأساس وهاته الأخيرة هي التي تضع الفرد في خدمة تطوعية للجماعة ، وهذا ما يظهر جليا من خلال البدايات الأولى للتربية في المجتمعات القديمة وهي تربية غير مقصودة حيث تتم بمشاركة الأطفال للكبار في العمل وبعد إتقانه يصبح الطفل عضوا في الجماعة، شيئا فشيئا بدأت تظهر بعض الحرف أو شبه مهن. لها معتنقوها كالذين يتعاطون للسحر وآخرون يمارسون الطب، هؤلاء كانوا يكونون نظاما له تقاليده وتعاليمه أصبحوا فيها بعد جماعة للتعليم وتم بعد ذلك الانتقال من التربية الغير المقصودة إلى التربية المقصودة وهذا التمييز بين خبرات التعليم والخبرات العادية أدى إلى انفصال الخبرات التعليمية عن أنشطة الحياة العادية، وبدأ بذلك الظهور الأولي للمدرسة إلا أن هذا لم يكن السبب الوحيد في ظهور المدرسة بل كذلك تراكم الثرات التقافي واختراع الكتابة… وإذاكانت التربية هي وسيلة الجماعات الإنسانية للسيطرة على بيئتهم فإن الكتابة كانت وسيلة التربية لهذه السيطرة الاجتماعية وكانت المدرسة عند الإغريق تعني وقت الفراغ، مما يعني تخصيص وقت الفراغ للتعلم مما يدل على انفصال المدرسة وتمييزها عن الحياة. إلا أن هذا التطور في التربية المقصودة لم يقض نهائيا على التربية الغير المقصودة فحتى وقتنا الحاضر لازالت التربية عن طريق الصبينة هو النوع السائد لدى السواد الأعظم من أفراد المجتمع. وكذا دورها في تشكيل شخصية الطفل حيث يقضي ساعات محدودة داخل القسم والباقي خارجه وهذا دليل على أهمية التربية الغير المقصودة. وهكذا بدأت التربية تعود من خلال المدرسة مرة أخرى لتتصل بالحياة بعد أن بدت منفصلة عنها. وبعد أن كانت غاية في داتها، فالتربية في الوقت الحاضر تتصل بالحياة اتصالا وثيقا ولاتنعزل عن المجتمع الذي تخدمه، ولذلك أنشأ المجتمع المدرسة كمؤسسة اجتماعية لتقابل حاجة من حاجاته الأساسية، وهي تطبيع اجتماعي للأفراد لجعلهم أفرادا صالحين في المجتمع، وهي مؤسسة اجتماعية إلى جانب مؤسسات أخرى، ويقول في هذا الصدد كيل باتريك في فلسفة التربية : أن المؤسسات الاجتماعية هي جميع التنظيمات الاجتماعية التي تنظم علاقة الأفراد بعضهم مع بعض هادفة من ذلك إلى تحقيق حياة أفضل . ولكل مؤسسة من هذه المؤسسات اهداف تعمل على تحقيقها في ظل نظام ثقافي سائد لتقوم بدورها في النظام الاجتماعي العام وبوظيفتها الاجتماعية داخل المجتمع، وتعمل على انسجام الفرد في الاطار الثقافي العام