ترجع أهمية العملة فى مصر إلى الحكم الرومانى بها حيث إنها أساس لكل المعاملات الاقتصادية، وبدأ صنعها من معدن البرونز ثم الفضة، وكذلك الذهب الذى أصبح من أهم المعادن التى تصنع منها العملة، وأطلق عليها قاعدة الذهب Standard Gold وأصبحت أساسا للنظام النقدى فى مصر حتى بعد الفتح الإسلامى للبلاد ([1]).

واستُعمل الدينار البيزنطى (العملة الذهبية ) والدرهم الساسانى (العملة الفضية) فى عهد الرسول ، والخلفاء الراشدين، وكذلك فى العصر الأموى حتى عُربت العملة فى عهد عبد الملك بن مروان([2]) الذى عرب الدواوين([3]).

كانت العملة تصدر من دار الضرب (دار السكة ) بمدينة الإسكندرية من بعد دخول العرب إلى مصر، وكانت البلاد تعتمد على الدنانير والدرهم، التى تُنقش عليها صورة الحاكم ، ثم تطورت بعد ذلك، ونقش عليها اسم دار الضرب، بجانب الصورة واسم الحاكم والآية القرآنية، واستمر هذا الشكل والطراز بعد ذلك عبر العصور الإسلامية فى مصر([4]).

فى العصر العباسى كان للعملة موظف يُدعى ناظر السكة، وكان يشرف على كل دار الضرب (دار السكة ) وكلما أقيمت دويلات إسلامية فى الأقاليم أقيمت فيها مراكز جديدة لسك النقود([5]) .

 كانت الدولة العباسية تعهد إلى القاضى بالإشـراف على دار الضرب فى مصر ، وذلك ضمانا لشرعية وزن الدنانير والدراهم، والتأكد من عدم غش الذهب؛ فالقاضى كان يسعى ويجتهد فى خلاص الذهب وتحرير عياره ونقائه([6]) ، وإلى جانب القاضى كان هناك متولى دار الضرب، فكانت له السلطة على كل العاملين فى دار الضرب، ولاسيما الموظفين الذين يقومون بالختم على الدنانير والدراهم وعيارهما، وكان يتم مراضاتـــهم([7]).

 وكان أيضا للصيارفة دور كبير فى دار الضرب، ولا سيما فى السياسة الاقتصادية للبلاد؛ حيث إنهم قاموا بعمليات عدة من التسليف والأراضى لعدد كبير من التجار وقبول الحوالات والصكوك([8]) مقابل عمولة يتخذونها ([9]).

أما فى عهد الدولة الفاطمية فقد اهتمت بالعملة ولا سيما المصنوعة من الذهب؛ فكان أساس المعاملات المالية فى الأسواق الدينار الذهبى والدرهم الفضى ([10])، ووعد الفاطميون المصريين بتجويد العملة وجعلها على المعيار الذى كان معمولا فى بلاد المغرب، وأكدوا أنهم سوف يبذلون جهودهم لمنع الغش فى العملة، ولكن أحوال البلاد التى جاءوا فيها كانت سيئة أواخر العصر الإخشيدى، ودار الضرب كانت معطلة، وكانت العملة المتداولة آنذاك هى الدينار الراضـــى([11])، والدينار الأبيـــض والدرهم الرباعى ([12]).

لكن الفاطميين أبقوا فى البداية على هذه العملات، ولم يحدثوا أى اضطراب فى التعامل النقدى ولا سيما اتجاه العملة السنية، ولكنهم منعوا العملة ذات الفئة الصغيرة مثل المثقال([13]) والقطع التى أصبحت بلا قيمة مع ارتفاع الأسعار([14]).

سعى الفاطميون لإصلاح أحوال البلاد وإيجاد اقتصاد قوى؛ فسعوا جاهدين لإيجاد الذهب وتحسين العملة فأصدروا عملتهم الخاصة لهم التى تخدم  مذهبهم وتحمل أسماء خلفائهم وألقابهم، وأول هذه العملات الدينار المعزى نسبة للخليفة المعــز لدين الله الفاطمى الذى تم إصداره سنة 358هـ/969م ([15])

لا شك أن الاهتمام بالعملة من قبل الحكام يعد أحد جوانب سياستها الاقتصادية التى قامت بها الدولة الفاطمية رغبة منها فى أن تكون لها السيادة المالية خاصة من خلال إصدارهم عملتهم الجديدة التى تحمل اسمهم وتشير إلى مذهبهم  حتى تحقق لهم هدفا سياسيا فلذلك كان للعملة وقيمتها دور مؤثر فى حركة الأسواق وأسعار السلع .

لذلك عملت الدولة عدة إجراءات من شأنها خفض قيمة العملة العباسية فقامت بتثبيت قيمة الدينار المعزى، وجعلته يساوى خمسة عشر درهما ونصف، وحددت قيمة الدينار الراضـى العباسى بخمسة عشر درهما، وجعلت الدينار الأبيض يساوى عشرة دراهم ([16]) ، كما أن الدولة رفعت المعاملة بالدنانير المتقية التى ترجع إلى عصر الخليفة المتقى العباسى ([17]).

هذا التحديد الذى أمرت به الدولة الفاطمية وقررته تسبب فى ضرر كبير للصيارفة لما كان لديهم من كميات كثيرة من هذه الدنانير فأحدثوا ثورة كبيرة لكن القائد الفاطمى جوهر الصــقلى قام بتهديدهم بهدم أماكنهم فخضـعوا لأوامره ([18])، وكان عددًا كبيرًا منهم من اليهود ([19]) .

 عهد الخليفة "المعز لدين الله" إلى "يعقوب بن كلس"([20]) و"عسلوج بن الحسن"([21]) بالإشراف على الخراج، وأمرهم بعدم الأخذ إلا بالدينار المعزى مما أثر على الدينار الراضى الذى قلت قيمته بمقدار الربح رغم أنه أكثر وزنا وأشد نقاوة ([22])، وفى ذلك يقول ابن ميسر([23])" ولما جلس يعقوب بن كلس وعسلوج للاستخراج امتنعا أن يأخذا إلا دينارا معزيا فاتضع الدينار الراضى وانحط نحو ثلاثين دينار، ونقص من صرفه أكثر من ربع دينار فخسر الناس كثيرًا من أموالهم فى الدينار الأبيض، والدينار الراضى، وكان صرف المعزى خمسة عشر درهمًا ونصف..." .

أمرت الدولة الفاطمية أيضًا بمنع دفع الضرائب إلى بيت المال إلا بالدينار المعزى, وقلت قيمة الدينار الراضى فربحت الحكومة الفاطمية، وأصبحت عملتها السائدة فى جميع أنحاء مصر، وسُكت فى جميع دور الضرب فى البلاد ([24]).

 يتضح من ذلك أن محاولات الحكومة الفاطمية لرفع المعاملة بالدينار المتقى ثم  سحب الدينار الراضى من الأسواق لم يكن ورائها أسباباً اقتصادية فقط، بل كان وراء هذه القرارات أسباب سياسية ومذهبية تهدف إلى القضاء على الخلافة العباسية السنية فى مصر، فهذه النقود تحمل أسماء الخلفاء العباسين، وكانت أساس المعاملات المالية بمصر، فكان لابد من قطع الصلة بين مصر والخلافة العباسية.

إلى جانب هذه الإجراءات التى قامت بها الدولة الفاطمية أصدرت قرارًا آخر أثر على التعامل النقدى الذى يعتمد على معدن الذهب فى سك العملات وهو ضرب الدراهم الفضية واتخاذهما وحدة التعامل، وبذلك أصبحت النقود الفضية عملة أساسية، كالدرهم والنصف درهم، والربع درهم، وكانت قيمتها تتوقف حسب التداول سواء فى وقت الرخاء وحدوث الغلاء([25])

أدى إجراء الدولة الفاطمية – السابق الذكر- إلى حدوث تراجع لمعدن الذهب، وأصبحت عواصم مصر لا تتعامل إلا بالعملة الفضية كالقاهرة والإسكندرية([26]).

عندما حدثت الأزمات فى عهد العديد من الحكام

 

(([1] سيد طه :الحرف والصناعات فى مصر الاسلامية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1991م، ص 180-181, 230.

([2]) عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموى يعد من أعاظم الخلفاء الامويين نشأ فى المدينة  فقيها واسع العلم تولى الخلافة سنة 65هـ/ 684م، واستطاع ضبط أمور البلاد تميز بقوة الهيبة جبارا مع معانديه ، هو أول من صك الدنانير فى الاسلام وأول من نقش بالعربية على الدراهم.    (القضاعى:عيون المعارف، ص588؛ ابن الأثير:ج4، ص 198؛ الصفدى: الوافى، ج19، ص139، 141؛ خير الدين الزركلى : الأعلام ، بيروت 2002م، ج4 ، 165).

([3]) الصفدى: المصدر السابق، ص140؛ إبراهيم سلمان الكردى، عبد التواب شرف الدين: الحضارة العربية الإسلامية, الكويت 1984م ، ص 131 -134 .

(([4]عبد المنعم ماجد: النقود الفاطمية فى مصر، دوريات كلية الاداب،جامعة عين شمس،1953م، المجلد الثانى ، ص224-225.

([5])محمد الصادق عفيفى: تطور الفكر العلمى عند المسلمين،القاهرة ، 1977م، ص 54؛Sauvaire H: Matériaux pour Servir à l'histoire de la numismatique et de la métrologie et de la musulmanes,Nat, Paris 1882, P.122-123

([6]) المقريزى : الخطط ، مج1، ج2 ، ص 109.

([7]) الكاملى" منصور بن بعرة الذهبى الكاملى ، القرن السابع الهجرى / الثالث عشر الميلادى"  : كشف الأسرار العلمية بدار الضرب المصرية ، طبعة جامعة الملك سعود ، د. ت ، ص 31-32.

(([8]الصكوك:هى إحدى الوسائل التى استخدمت لدفع الأموال، والصك أمر بدفع مقدار معين من النقود للشخص الوارد اسمه فيه، استخدمت منذ صدر الاسلام،حيث كانت الأرزاق تخرج مكتوبة، وكان الأمراء يكتبون للناس بأرزاقهم وأعطياتهم كتبًا(ابن منظور: لسان العرب، مج4، ج28، ص2475).

([9]) وكان اليهود يحتلون نسبة كبيرة من وظائف الصيارفة. (آدم متز: الحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجرى،ترجمة: محمد عبد الهادى أبو عبيد القاهرة ، سنة 1940م ، ج2، ص 377 ).

(([10] ذكر ابن خلدون أن الناس يفضلون الذهب والفضة لكونهما سريعا السبك , والطرق والتشكيل بما يريدون وتمتاز بالنقاء وحسن الرونق.(إبن خلدون : المقدمة, ص183)

(([11] الدينار الراضى نسبة إلى الخليفة الراضى بالله أحمد بن المقتدر العباسى، تولى الخلافة سنة 322ه/ 933م، اتصف بسماحة النفس، يعد من محبى العلماء، كان شاعرًا، توفى ببغداد فى شهر ربيع الآخر سنة 329ه/ 940م.(ابن الأثير: الكامل، ج7، ص98؛ الصفدى: الوافى، ج2، ص221-224؛ المقريزى : المقفى ، ج3, ص 105 ).

(([12] المقريزى: المقفى ، ج3,ص 100، 105 ؛ أتعاظ الحنفا ، ج 1, ص 115 ، 116 ؛ سيدة إسماعيل الكاشف: مصر فى عصر الاخشيديين،  القاهرة ، سنة 1950 م, ص5.الدينار الابيض تم سكه فى العصر الاموى، أما الدرهم الرباعى ضرب فى عهد الخليفة العباسى المأمون . (المقريزى :الخطط ، مج1،ج1، 284؛ عبد المنعم ماجد: النقود الفاطمية فى مصر ، ص226).

(([13]المثقال: أحد أوزان الكيل ويساوى وزن الدينار وهو موجود من القدم .(المقريزى : الأوزان والأكيال، ص60)

([14]) المقدسى : أحسن التقاسيم ، ص 204 ؛ عبد المنعم ماجد : نظم الفاطميين ورسومهم ، مكتبة الأنجلو المصرية، د.ت، ج1 ، ص127؛ محمد أبو الفرج العشى: مصر القاهرة على النقود العربية الإسلامية، أبحاث الندوة الدولية لتاريخ القاهرة، القاهرة 1971م، ص948.

([15])المقريزى: أتعاظ الحنفا ،ج 1, ص 115-116 ؛ شذور العقود فى أخبار النقود , ص12.

وكان شكل العملة الفاطمية الصادرة من دار الضرب يمتاز بزيادة النقوش والزخارف حيث عمل الصناع على نقش ثلاث دوائر داخل بعضها على كل وجه من وجهيها وكانت الكتابة عليها بالخط الكوفى البارز وحافظ الأيوبيون على هذا الطراز من الكتابة بعد ذلك (سيد طه: الحرف والصناعات , ص 193).

([16]) المقريزى : أتعاظ الحنفا, ج1 ، ص 122 – 123؛ عاطف منصور محمد رمضان: موسوعة النقود فى العالم الاسلامى، القاهرة 2004م، ج1، ص 343-344.

([17]) آنستاس مارى : النقود العربية, ص 58. والمتقى هو أحد خلفاء الدولة العباسية، ويكنى بالمتقى لله أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر، بويع بالخلافة يوم الأربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة 329ه/ 940م، كان عابدًا كثير الصلاة والصوم، حسن الخلق، خانه أصحابه فهرب من بغداد إلى الرقة وعندما هدأت الأمور رجع مرة ثانية لكنه ترك الخلافة حتى توفى سنة 357ه/ 967م.( ابن ظافر" أبوالحسن على بن منصور ظافر بن حسين الأزدى، ت613ه/ 1216م": أخبار الدول المنقطعة، تحقيق: عصام مصطفى هزايمة، محمد عبد الكريم، محمد على طعانى و على إبراهيم عبابنة، الأردن 1999م، ج2، ص409-410؛ الصفدى: الوافى، ج5، ص224).

([18])المقريزى: أتعاظ الحنفا،ج1, ص 132؛ حسن إبراهيم حسن:الفاطميون فى مصر، ص 186.

([19])المقريزى: المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة؛ نريمان عبد الكريم: معاملة غير المسلمين فى الدولة الإسلامية ,الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1996م ، ص 146.

([20]) يعقوب بن كلس: أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن إبراهيم بن داوود بن كلس، الذى كان فى أول أمره يهوديًا، ولد فى مدينة بغداد سنة 318ﻫ/930م، وقضى بها فترة طفولته وتعلم بها الكتابة والحساب ، واتصل بخدمة كافور الأخشيدى، فحمد خدمته ورد إليه زمام ديوانه بالشام ومصر، وترقى فى كثير من المناصب حتى أصبح وزيرا فى مصر خلال العصر الفاطمى .(الصيرفى: الإشارة إلى من نال الوزارة، ص21؛ ابن خلكان: وفيات الأعيان، ﺟ7، ص27؛ عبد المنعم سلطان: التاريخ والحضارة الإسلامية قراءة جديدة للمصادر، المكتب الجامعى الحديث، الإسكندرية، 2010م، ص185، 186)

([21])أبو على الحسن بن عسلوج، وهو المشرف على الأموال أيام الخليفة المعز لدين الله مقاسمة مع يعقوب بن كلس واستمر أيضًا مع الخليفة العزيز بالله، لكنه قتل بأمر من الحاكم بأمر الله الفاطمى ،عام 393هـ/ 1002م، وأُحرق.( المقريزى: المصدر السابق، ج2،ص46).

([22])المقريزى:الخطط، مج2،ج3، ص8؛ شذور العقود، ص68؛آنستاس مارى: النقود العربية، ص58 .

([23])ابن ميسر : المنتقى من أخبار مصر ، ص 42؛  المقريزى: شذور العقود، ص68.

([24]) المخزومى "القاضى السعيد ثقة الثقاب ذو الرياستين الحسين على بن أبى عمرو عثمان بن يوسف، ت585ه/ 1189م: المنهاج فى علم خراج مصر، تحقيق: كلود كاهن, القاهرة 1986م، ص 31 ؛ عبد المنعم ماجد: الإمام المستنصر بالله الفاطمى ، القاهرة ، سنة 1961م، ص 250 .

([25])ابن خلدون: المقدمة، ص 184؛ رأفت محمد النبراوى وآخرين: الصنج الزجاجية للسكة الفاطمية المحفوظة بمتحف الفن الإسلامى، بالقاهرة، القاهرة1997م، ص22-30؛ عاطف منصور: النقود فى العالم الإسلامية، ص347.

([26])المقريزى : إغاثة الأمة، ص 139-140.