هندسة الفركتال وتنمية الابتكار والتذوق الجمالى

تطور تعليم الرياضيات تطوراً مذهلاً مع نهاية القرن العشرين، فانتقل بالمتعلمين من التركيز على حفظ الحقائق وتطبيق الخوارزميات الرياضية إلى اكتشاف قوة الرياضيات ودورها في تنمية تفكيرهم من خلال التطبيقات الحياتية والمجتمعية للرياضيات.

 هذا التطور في مجال تعليم الرياضيات أدى إلى توجيه اهتمام أكبر لبنية الرياضيات المعرفية وعلاقتها بمكونات العلوم الطبيعية الأخرى، الأمر الذى أدى اكتشاف نوع جديد من التركيب الهندسي البديع أطلق عليه هندسة الفركتال Fractal Geometry.

ويذكر (1999, p363) Naylor، أن هندسة الفركتال تفجر طاقات الابتكار والخيال عند المتعلمين، ويعتبر تدريسها ذو أهمية كبيرة في إثراء وتنمية تفكير المتعلمين الذي يعتبر من أهم أهداف تعليم الرياضيات. كما تسهم فى إبراز الجوانب الجمالية في الرياضيات؛ ذلك لأن الفركتلات تقدم لنا أشكالاً ذات قيم جمالية كبيرة وهي ترتبط بشكل مباشر بكيفية تنظيم العالم من حولنا.

ولمزيد من الإيضاح يعرض الباحث فيما يلى بشئ من التفصيل لكل من هندسة الفركتال، والتفكير الإبتكارى، والجمال فى الرياضيات.

أولاً:هندسة الفركتال.

شهدت العقود الثلاث الأخيرة تطورات واسعة في مجال الرياضيات. حيث ظهر ما يسمى بالرياضيات العصرية؛ والتى تميزت بتطبيقاتها الواسعة وبدورها الأساسى فى نمو نظريات علمية ورياضية معاصرة مثل نظرية chaos أو الفوضى. (نظلة حسن خضر، 2004أ، ص21)

والمقصود بها: أن أي تغير فى الشكل المبدئى للنظام مهما كان صغيراً قد يؤدى إلى تفاوت كبير فى مخرجات النظام مع نهاية المطاف، ويُعرف هذا المفعول بأثر الفراشة (Butterfly Effect) نسبة إلى أن حركة جناحى الفراشة وهى تحلق فى الجو قد يكون له تأثير على حركة الرياح فى المدى البعيد وربما فى مكان آخر غير الذى كانت تحلق فيه. ويعنى ذلك أن مسارات الأحداث تتباين تبايناً كبيرا بسبب اختلافات تبدو ضئيلة فى الشروط الابتدائية للمشكلة المطروحة. (جيمس جلايك، 2000، ص43)

ويقصد بنظرية الفوضى من الناحية الرياضية مجموعة من الطرق الرياضية والعددية والهندسية التى تمكن الشخص من التعامل مع مشكلات معقدة غير خطية وتلك التى ليس لها حلول عامة صريحة أو لا تخضع لقوانين عامة لحلها. ( وليم تاوضروس عبيد، 2008،web sit)

وتُعد هندسة الفركتال نموذجاً تطبيقياً لنظرية الفوضى. وقد ساعد تقدم علوم الكمبيوتر وأساليبه وتطبيقاته فى الرسوم والنمذجة على نمو وتطور هذا النوع من الهندسات.

وقد ابتكر Mandelbrot كلمة فركتال Fractal عام 1983م لتصف وتشرح العديد من الظواهر الطبيعية، وتأتي كلمة فركتال من الفعل اللاتيني Franger والذي يعني يفتت أو يكسر، وهذا الفعل يرتبط بوصف الخصائص الطبيعية للأشياء، فهي تبدو "مفتتة" غير مستوية في أشكال مركبة ومعقدة مثل التغيرات المتعرجة جداً لساحل جزيرة أو شاطئ. (رضا أبو علوان السيد، 2001، ص113)

كما أن كلمة فركتال تأتي من الكلمة اللاتينية Fractious وتعني تكسير أو تفتيت، وهي تصنف مجموعات غير عادية من الخطوط والنقط والتعرجات، ولكلمة فركتال شقين الأول وهو الفركتلات الطبيعية وتختص بالأشكال والأشياء المرتبطة بالطبيعة والعلوم، والثاني في الرياضيات والذي يهتم بدراسة مجموعة الفركتلات التي غالباً ما يكون لها جذور في نظرية الفوضى. ( موسى ديب الخورى، 2008، web sit )

(1)    نشأة وتطور هندسة الفركتال:

يشير ( 2000,p710) Camp، إلى أن Mandelbrot هو مؤسس علم هندسة الفركتال، بالضبط كما أسس إقليدس للهندسة الإقليدية. وقد تجسد ذلك فيما أشار إليه   Mandelbrot  عن خصائص هندسة الفركتال في كتابه (The Fractal Geometry of Nature) الذي نشر عام 1983.

إلا أن Krantz أشار إلى أن معظم أفكار هندسة الفركتال كانت موجودة من قبل. وأن بعض نظرياتها أُثبتت فى عام 1920م. فى حين أن أفكار Mandelbrot حول هذه الهندسة لم تظهر قبل عام 1975م. ويؤكد Krantz ذلك بقوله " أن الأغراض المسماة حالياً فركتالات اكتشفت ودُرست قبل زمن بعيد من إطلاق هذه التسمية عليها، فإشارة  Mandelbrotإلى فكرة التشابه الذاتي لأشكال هندسة الفركتال ما هى إلا تطوير لما قام به الفيلسوف الرياضى "ليبنز" الذي تعمق في دراسة تفاصيل هذه الأغراض.                             (  Krantz, 1991, p.169)

 وفكرة التشابه الذاتى تعنى أن بعض الأشكال فى الطبيعة تتكون من أشكال أصغر منها بمقاييس مختلفة، فهى أشكال لها نفس المظهر لأى تكبير أو تصغير مثل فرع شجرة وتفريعاته. أو نهر بروافده. أو شريان وتفرعاته.

وئؤكد بعض الأدبيات ومنها: (Krantz,1991, p166؛ موسى ديب الخورى، 2008،web sit ؛ معين رومية،2008،web sit) صحة ما أشار إليه  Krantz. ففى عام 1872م أوجد Carel Vytras، مثالاُ لدالة ذات خاصة غريبة، ذلك أنها تستمر في كل مكان ولا يمكن تمييزها في أي مكان، إن مخطط هذه الدالة يدعى حالياً فركتال.

وفى عام 1883م قدم Cantor أمثلة لمجموعات جزئية من الخط الحقيقي تتصف بصفات غير طبيعية, حيث تبدأ بخط مستقيم طوله معلوم يكاد يتلاشى مع العديد من التكرارات أطلق عليه مجموعة Cantor الثلثية، كذلك طبق  Cantorفكرته على سطح مربع مساحته معلومة فى البداية كادت هى الأخرى أن تتلاشى فى النهاية مع العديد من التكرارات وأطلق عليها غبار  Cantor. كما بشكل (18) الأتي:(وفاء مصطفى كفافى، 2004، ص30)

شكل(18)

فركتالات Cantor

إن مجموعة وغبار "Cantor" هذه تصنف حالياً على أنها فركتلات. ومن الجدير بالذكر أن فركتالات "Cantor" هذه استخدمها "Mandelbrot" نفسه فيما بعد ظهور هندسة الفركتال فى تفسير ظاهرة التشويش التى تطرأ بين الحين والآخر على عمليات الاتصال اللاسلكية.

كذلك قدم   Van Kochعام 1904م لأربعة أشكال فركتالية كما هى موضحة فى شكل(19), ومن العجيب فى هذه الفركتالات الأربعة، أنها ذات أشكال مختلفة كما هو ملاحظ إلا أنها تحمل نفس الخواص وكلها نتجت من فكرة واحدة. ( رضا أبو علوان السيد، 2001، ص 132)

شكل(19)

فركتالات Koch

وفى عام 1916م قدم عالم الرياضيات Sierpinski شكلاً لا يمر بأى منطقة فى داخلية المربع أطلق عليه بعد عشرات السنين فركتال بساط أو سجادة "Sierpinski". ثم تابع تطبيق نفس الفكرة على مثلث متساوى الأضلاع, وعلى هرم كما فى شكل (20). وقد صنفت هذه الأشكال أيضاً إلى فركتالات بعد ظهور هندسة الفركتال. ( سها توفيق نمر، 2006، ص 97)

 

شكل(20)

      فركتالات Sierpinski

وفى عام 1918م  توصل Julia الى مجموعته الشهيرة التى أطلق عليها فيما بعد مجموعة فركتالات "Julia" وذلك لدى محاولته دراسة أثر إجراء عمليات التكرار المرحلى المتعاقبة على النقطة المركبة a+bi تحت تأثير الدالة التربيعية f(z)=Z2+c حيث C بارمتر عدد مركب، وعندما يساوى صفر فإن مجموعة "Julia" تكون دائرة. وإذا اختلفت قيمته عن صفر فإن مجموعة Julia تبدأ فى الظهور وتأخذ أشكالاً بديعة كما هى موضحة بشكل (21). (نظلة حسن خضر، 2004أ، ص 155)

 

     

شكل(21)

بعض صور مجموعة Julia

وفى عام 1920، وعلى غرار فكرة "Sierpinski" توصل " Menger", من خلال تطبيق مولد فركتالات Sierpinski على مكعب، إلى فركتاله المعروف باسم إسفنجة "Menger" كما فى شكل (22).( رضا أبو علوان السيد، 2008، web sit)

شكل(22)

اسفنجة Menger

 

كما استطاع العالم الرياضى الفرنسى "Peano" عام 1932م  التوصل الى المنحنى الموضح بشكل (23) الآتى، والذى يملأ سطح المستوى. عُرف فيما بعد ظهور هندسة الفركتال باسم فركتال "Peano"  أو  منحنى "Peano"  لملء المستوى. وهذا الفركتال على النقيض فى خواصه من فركتالات "Sierpinski", و فركتالات "Cantor". حيث أنه بعد العديد من التكرارات يملأ سطح مربع. مع العلم بأنه نشأ من قطعة مستقيمة ليس لها مساحة. إلا أنه فى النهاية يعطى شكلاً أو فركتالاً ذا مساحة تساوى مساحة سطح المربع الذى يملأ داخليته.       ( سها توفيق نمر، 2006، ص 99)

شكل(23)

فركتال منحنى Peano

ويرجع الفضل فى ظهور هندسة الفركتال بالشكل المتعارف عليه الآن إلى " Mandelbrot" وذلك مع نهاية السبيعنات من القرن الماضى. وارتبط اكتشافه لهندسة الفركتال بمحاولته حساب طول شاطئ انجلترا. ودفعه ذلك إلى البحث فى الأشكال المتشابهة ذاتياً والمتمثلة فى أعمال بعض الرياضيين السابقين أمثال "Koch"، و"Cantor"، و "Julia". ومنها بدأ في اكتشاف نوع جديد من التركيب الهندسي البديع أطلق عليه هندسة الفركتال Fractal Geometry. وقد اشتهر هذه النوع من الهندسات فى التسعينات. و بدأ تعريفها لمعلمى الرياضيات فى عام 2002م.  (نظلة حسن خضر،2004أ، ص 47)

(2)    ماهية هندسة الفركتال.

يُعد مصطلح هندسة الفركتال من المصطلحات الجديدة فى الأدبيات العربية لتعليم الرياضيات. وعليه فقد تعددت الترجمات لهذا المصطلح ومنها: هندسة المصغرات، وهندسة الفتافيت أو التفتيتات، وهندسة التكرارات وهندسة الطبيعة، و هندسة الكسور أو الكسريات. ورغم تعدد ترجمات المصطلح، إلا أن معظم التعريفات تدور حول خواص وطرق توليد أشكال هندسة الفركتال. ويتضح ذلك مما يلى:

يرى (1983,p203) Mandelbrot، أن هندسة الفركتال: "مجموعة من الأشكال الهندسية الخشنة ذات الانكسارات، بحيث يمكن تقسيم أى شكل منها إلى أجزاء كل منها هو تصغير للشكل لعديد من المقاييس".

ويتفق تعريف  ( 1996,p103) Clapham، مع "Mandelbrot" على أنها: "مجموعة من النقط ذات تركيب متماثل، وعادة ما تحتوي على بعض القياسات ذات التشابه الذاتى، فأي جزء تحتويه داخلها يعتبر صورة مصغرة للمجموعة كلها".

وبالمثل تعرفها سوسن محمد موافى (2004،ص13) بأنها: "الأشكال الهندسية التى تنتج من تفتيت أو تجزئة الشكل الأساسى إلى عدة أجزاء كل جزء منها صورة من الشكل الأصلى".

إلا أن نظلة حسن خضر (2004أ، ص96) تنظر إلى هندسة الفركتال من جانب آخر يختلف عن التعريفات السابقة. فتعرفها على أنها: "مجموعة من الأشكال الهندسية والتى لها بُعد فركتالى أكبر من أو يساوى بعدها التوبولوجى".

وتُعرَّف هندسة الفركتال فى القاموس الإلكتروني (E. Dictionary, web sit) على أنها: "نمط هندسي يتكرر على مقاييس تتزايد في الصغر وتؤدي إلى أشكال وأسطح غير منتظمة لا يمكن تمثيلها من خلال خصائص الهندسة الإقليدية".

وتضيف (1998,p10) Baransely، أن هندسة الفركتال هى لغة جديدة يمكن اعتبارها امتداداً للهندسة الإقليدية. ففى حين تقدم الهندسة الإقليدية التقريب المبدئى لتراكيب الأشياء فى الطبيعة ويمكن استخدامها فى التطبيقات التكنولوجية؛ فهندسة الفركتال تسهم فى دراسة مثل هذه التركيبات. فعن طريقها يمكن وصف السحب والجبال والشواطئ المتعرجة بدقة بالغة.

وتلخص (1999,p260) Randi، تعريف " Baransely" بأن هندسة الفركتال هى: "هندسة الطبيعة نظراً لارتباطها بالأشياء والظواهر الطبيعية".

بينما يعرفها رضا أبوعلون السيد (2008، web sit) بأنها: "الأشكال الهندسية المتشابهة ذاتياً، التى تنتج بإتباع مجموعة الخطوات تأخذ سمة التكرار اللانهائى بحيث يكون ناتج التكرار الأول مدخلاً فى التكرار التالى".

ويعرفها Julia بأنها: "الأشكال الهندسية المعقدة الناتجة من التكرار المتعاقب لتطبيق بعض المعادلات الرياضية على نقطة أو أكثر فى المستوى المركب". (David.G, 2002, p: 34)

وأياً كانت التسمية العربية. وتعدد تعريفات هندسة الفركتال. إلا أنها أصبحت مكون أساسى من مكونات الرياضيات الحديثة. ومع كونها تقدم أشكالاً هندسية بصور جذابة. فإنها أيضاً قدمت إطاراً نظرياً لتطوير موضوعات أخرى غير رياضية مثل نمذجة الأشياء مثل النباتات وغيرها وكذلك نمو الخلايا البكتيرية.

ويخلُص الباحث من التعريفات السابقة إلى أن هندسة الفركتال عبارة عن:

  • مجموعة من الأشكال الهندسية تنتج من تقسيم الشكل الأساسي إلى أجزاء صغيرة، وكل جزء هو صورة مصغرة من الشكل الأساسي.
  • الصور التى تنتج من التكرار المرحلى اللانهائى على بعض الأشكال الهندسية.
  • الصور التي تنتج من التكرار المتعاقب لبعض المعادلات الرياضية على بعض النقاط فى المستوى المركب.
  • مجموعة من الأشكال لها بُعد خاص يختلف عن البعد الإقليدى والتوبولوجى.

كما يلاحظ أن بعض التعريفات السابقة تلقى الضوء على طرق توليد الفركتال ومنها تعريف "رضا أبوعلوان السيد" وتعريف "Julia". بينما تشير تعريفات كل من "Mandelbrot"، و " Clapham " و "سوسن محمد موافى"؛ الى خاصية التشابه الذاتى. ويتطرق تعريف "نظلة حسن خضر" الى خاصية أخرى وهى خاصية البعد الفركتالى. ويختلف تعريف " Baransely " وتعريف " Randi" عن هذه التعريفات فى كونه ينظر إلى هندسة الفركتال على أنها هندسة الطبيعة.