التربية وتحديات العـولمـة

   لقد كانت وظيفة التربية في الماضي ، تقتصر على نقل الثقافة المرجوّة والمستقرّة نسبياً  إلى الأجيال الجديدة ، ويطلق على هذه الوظيفة : " الوظيفة المحافظة للتربية، والتي تقوم على نقل ثقافة الراشدين إلى الذين لم يرشدوا بعد .. أو نقل ثقافة الكبار إلى الصغار " لكن مع  تطوّر المجتمع ورغبته في التقدّم ، وانتقاله من الوضع التقليدي / الجامد إلى الوضع العصري / المتحضّر ، ظهرت الحاجة الماسة إلى تعديل الدور الذي تقوم به التربية وتطويره ، انطلاقاً من ضرورة أن تضطلع  التربية بدور مهمّ في استحداث التغبير ، وتسيير الحراك الاجتماعي . ولا سيّما أنّ التربية تمثّل النظام الرائد بين الأنظمة الأخرى في المجتمع ( الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ) حيث يكون لها الفاعلية المؤثّرة في تنمية هذه الأنظمة ، والتي تنعكس – في المقابل- على تنمية دورها في التغيير والتطلّع إلى التحديث المستمرّ ..

   لقد اكتسبت عملية التغيير في التربية الحديثة أبعاداً جديدة ، تمثّلت في سرعة التغيير وغزارته وكثافته ، حتى تكاد القدرة على التغيير المستمرّ والتلاؤم والابتكار ، تصبح من خصائص التربية الحديثة ، ومن دونها يفقد الإنسان إنسانيته . فالتغيير وما يحدث في العالم من تعديل في أوضاع البيئة والتربية والاقتصاد ، لا يلبث أن يفرض سلطانه  على الجميع ، وهو قد يبدأ فكرة ومن ثمّ تصبح قانوناً يجب اتباعه؛ ومسألة كهذه تتعلّق بالصلة الوثيقة بين التربية والعولمة والتعليم ، وبين العولمة والتغيير . فالعولمة لها منطلقها الخاص ، وهي تفرض أن يقوم كلّ بلد من البلدان بخلق فرص نجاحه في الوضع الكوني الجديد ، إذا كان ذلك مقدّراً له .

    ولذلك ستظلّ التربية في عالمنا الراهن وفي عالم الغد ، من أبرز العوامل التي تسهم في عمليات التغيير الاجتماعي  والتنمية الشاملة . كما أنّها ستبقى إحدى الأدوات الرئيسية التي يعوّل عليها في البناء الثقافي / الحضاري ، والركيزة الأساسية في إجراء التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، في مجتمعاتها من جهة ، ولمواجهة التحديّات العولمية من جهة أخرى ...!

   إنّ المصطلح الذي يؤكّد عليه في تعريف الثقافة ، هو أنّها ذلك الكلّ المركّب من العقائد والقيم والأفكار والمعايير والإبداعات وأنماط العيش ، التي تشكّل قوام الحياة في مجتمع من المجتمعات البشرية . أمّا العولمة ، فتفتح حياة الناس للثقافة ولتدفّق الأفكار والمعرفة ، غير أنّ الثقافة التي تنقلها الأسواق الواسعة ، العالمية / المعولمة ، تدعو إلى القلق. ولذلك تواجه التربية –باعتبارها أداة أساسية لنقل التراث الثقافي من جيل إلى جيل – تحدّيات العولمة التي تسعى إلى فرض  قيمها وأفكارها على الكبار والصغار معاً .

   وتتجلّى أبرز هذه التحدّيات قي الجوانب التالية :

  • تطلّعات القرن الحادي والعشرين للتربية ، بحيث يكون من أهم مخرجاتها بناء الإنسان الحرّ ، وتحقيق نضج الفرد المتعلّم في مستوياته المختلفة ( الجسمية والعقلية والاجتماعية والانفعالية والروحية ) ، الإنسان المؤمن الواعي القادر على البناء والعطاء ، في إطار من وضوح الرؤيا وتحقيق الهدف المرجو ضمن المسؤولية الهادفة .
  • الاعتراف بالواقع المعاصر ، وهو ضعيف من حيث البناء الثقافي العام والمكتسبات المعرفية ، وتخلخل الإبداعات ، وعدم رعاية الكفاءات في العلوم والفنون ، والاضطراب في الرؤية الاجتماعية في النظر إلى التخصّصات العلمية والأدبية .. وهذا كلّه يقود إلى الخلل في الأجهزة التربوية والمؤسّسات التعليمية ، التي تعدّ من أبرز الدعامات والمرتكزات القوية في البناء الثقافي ، والمؤسّسات المعرفية .
  • تحديات الانفتاح والمأسسة ، حيث يساعد الانفتاح في العمل الجماعي والتنسيق ، وزيادة الوعي ونقل التكنولوجيا بصورة أفضل وسهولة أكبر . كما يساعد وضع مخطّط تربوي جديد ، مستند إلى الماضي ، في بناء مستقبل النظام التربوي لبناء إنسان القرن الحادي والعشرين .
  • تحديات الإدارة التعليمية ، حيث يتمّ توفير بيئة تربوية بمضمون أكاديمي وثقافي ، وتوفير مربين متميّزين يعيشون بين الطلبة ، وتنمية إحساس الطلبة بالغيرية .. وتجاوز أمراض البيروقراطية من خلال الإبداع والسعي الذاتي نحو الإنجاز والتطوّر الذاتي والجماعي ..
  • -تحديات تربوية / أسرية ، تتمثّل في كيفية تربية الأبناء في هذا المجتمع بعولمته الجديدة ، حيث يعيش الإنسان تحديات معاصرة قد تزول أمامها شخصيته ؛ ومن أهمّها كيفية التعامل مع الأبناء الذين يواجهون هذا العالم بتغيّراته الكثيرة والسريعة .
  • وأخيراً ، تحديات تواجه المثقّف العربي ناشئة عن الأزمة الكلية للأمّة العربية في مجالات السياسة والفكر والمجتمع ، والمتمثّلة في : ( عدم وجود سياسات تربوية واضحة ، وآثار الغزو الثقافي ، والفراغ الفكري ، وارتفاع نسبة الأميّة في المجتمع)

   وهكذا تتوالى التحديات على العملية التربوية / التعليمية ، والتي تتطلّب من أهل التربية والتعليم ، أن يبذلوا جهوداً متواصلة لمواجهة هذه التحديات ، والتي لا بدّ من مواجهتها والتعامل معها بجديّة وتخطيط واعٍ ومدروس ، يحفظ الهوية التربوية ويرفع من مكانتها بالتجديد المستمر شكلاً ومضموناً .

  أمّا الشواهد على هذه التحدّيات ، فتتمثّل في الأمور التالية :

   - تطويع المنظومة التربوية / التعليمية / وتقييدها بأفكارها وآلياتها الرئيسة ، وإخضاع النظم التربوية / التعليمية لشروطها وهيمنتها ، من خلال فرض نماذج من فلسفات تربوية خاصة بطبيعة العولمة .

  - السيطرة من خلال اختراق المنظومة التربوية / التعليمية ، وتغيير اتجاهات الأفراد ، ممّا يجعل فيها تناقضات بين الأصالة والمعاصرة ، ويؤدّي بالتالي إلى تهميش المنظومة التربوية / التعليمية أو تغيير ملامحها . ويتجلّى ذلك في الشواهد التالية :

  - عولمة قطاع التعليم بسرعة كبيرة من دون تخطيط وتركيز ،  من دون دراسة نتائج عولمة هذا الميدان .

 - انتشار مدارس الجاليات العربية والأجنبية ، التي تدرّس الأفكار الأجنبية وباللغة الأجنبية ، وتوسيع دائرة المدارس الخاصة التي تدرّس المناهج الأجنبية باللغات الأجنبية .

 - التدخّل في تعديل المناهج الدراسية بما يتناسب مع أفكار العولمة ،  والاهتمام بإدخال لغة العولمة بشكل سريع لضرب اللغة الأم ، وتذويب هوية الطالب من خلال هذه اللغة المعولمة .

    ولا بّد من الإشارة هنا ، إلى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية عملت من أجل السيطرة  على المؤسّسات الدولية ذات الاختصاص التربوي ، مثل : منظّمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم  ( اليونسكو ) التي تشرف على القطاع التربوي في العالم ، باعتبار الشأن التربوي/ التعليمي شأن عالمي يُلامس الأمن والسلام في العالم ، ولذلك يجب أن يتّسم بالانفتاح ، كما يرى ( العولميون ) .

    كما حاولت الولايات المتحدة الأمريكية التوغّل في منظّمات ( تربوية / ثقافية ) إقليمية ، مثل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ، والمنظّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم . وسعت إلى توجيه نشاطات هيئات أخري ذات طابع اقتصادي ، مثل : صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي .. لجعلها أدوات في خدمة نمط معيّن من المنظومة المعرفية والثقافية والتربوية ، في بلدان أخرى من العالم ، دون النظر إلى النتائج المترتّبة على ذلك .

  لقد شكّلت العولمة بمضموناتها وأساليبها ، خليطاً من الإيجابيات والسلبيات ، وإن كانت بنسب متفاوتة ، اختلفت النظرة إليها وفقاً لطبيعة الناظر ومنظوره ..ولذلك أثارت ظاهرة العولمة انقساماً بين المفكّرين والدارسين والمعنيين بالشأن التربوي ؛ فبعضهم يرى في العولمة نعمة تجلب الثروات والتقدّم الحضاري ، وبعضه الآخر يرى فيها نقمة وخطراً على النظام التربوي والاستقرار الاجتماعي .. وبين هذين الاتجاهين تقف التربية لتثبت هويتها ومسؤوليتها الاجتماعية .

   ولمواجهة هذه التحديات لا بدّ من اتخاذ الإجراءات التالية :

  1- نشر الوعي بالعولمة :

   إذا كان الكثيرون – في العالم – يعتقدون أنّ العولمة أصبحت قدراً محتوماً ، فإنّ الحقيقة أيضاً ، هي أنّ العولمة غير قابلة للرفض المطلق أو القبول المطلق ، بل يجب التعامل معها كنظام متشابك الأبعاد ينبغي فهمه والتعامل معه ، في إطاره الاقتصادي والسياسي والتربوي والثقافي ، لأنّ العلاقة بين هذه الأبعاد قوية وثابتة، لا يجوز تجاهلها .

    إنّ الخطوة الأولى في التعامل مع العولمة ، تتمثّل في توعية الناس بطبيعة هذه الظاهرة ، وأبعادها وأهدافها ، القريبة المدى والبعيدة المدى . لأنّ الكثيرين من الناس يجهلون حقيقة هذه الظاهرة  ، حتى وإن سمعوا بها ، ولا سيّما أنّ  العولمة ما تزال غير مكتملة في بنيتها والتحكّم به ، ولذا فإنّ من المتوقّع أن تستمرّ إفرازاتها وتفاعلاتها مدة طويلة قبل أن تضبط وتنتظم .

   ولذلك فإنّ من واجب المفكّرين والدارسين ، متابعة تطوّرات العولمة وتوضيحها للناس بعلمية وموضوعية ، مع الأخذ في الحسبان أن وقع العولمة وتأثيراتها ، لن تكون واحدة على الأمم المختلفة ؛ فالشعوب الأوروبية مثلاً ، قد لا يصيبها ضرر العولمة وهيمنة الثقافة الأمريكية ، كغيرها  من الشعوب الأخرى ، وذلك لأنّ الجذور القيمية والأخلاقية للثقافات الأوروبية لا تبتعد كثيراً عمّا هي عليه في الثقافة الأمريكية التي تعدّ امتداداً لها ، أو خليطاً من فروعها .

   وستبقى ردود الأفعال على مجمل التغيّرات والتحديات ، التي تأتي بها العولمة ، هزيلة ومشتّتة وربّما متناقضة ، إذا لم يتمّ التعرّف إليها ، وتوافر القدر الكافي من الإجماع على كيفيّة التعامل معها، وتحديد الموقف منها .

  2- توفير إطار مرجعي للتعامل مع العولمة :

   الإطار المرجعي المقصود هنا ، يعني مجموعة من المسلّمات الخاصّة بـ " تقييم " الأسس والمفاهيم والأفكار التي تقوم عليها العولمة من جهة ، والسلوكيات الإنسانية المختلفة الخاصة بها من جهة أخرى ؛ فلا يمكن لأمّتنا- في أية حال من الأحوال – أن تتخلّى عن القيم الإنسانية ، كصلة الأرحام واحترام حقوق الإنسان ، والرحمة بالفقراء والتسامح ، والتعاون على الخير..  فالمطلوب ليس اعتراف الناس بهذه الأصول والقيم فحسب ، وإنّما تربية الناشئة عليها وإبراز نماذج  وقدرات تتجسّد في حياتها وسلوكاتها. ولذلك لا بدّ من تنظيم ردود الأفعال تجاه المتغيّرات السريعة التي أخذت تجتاح شبابنا ، وتهدّد قيمنا ومصالحنا ومستقبلنا  ولا سيّما أنّه في ظلّ العولمة ، تتقلّص سلطة الدولة والأسرة والمجتمع ، وتتمدّد سلطة المال ويتّسع نفوذها ، مع سلطة الشهوات والمتع ، والمصالح الفردية / الخاصة .

    وهنا تبرز أهميّة دور الأسرة والمدرسة باعتبارهما أساس قوّة التحصين ، وحصن المواجهة المنيع ضد العولمة ؛ وهذا يتطلّب إيلاءهما الرعاية الكاملة ، ودعمهما مادياً ومعنوياً ، ليتمكّنا من تحقيق التنشئة الاجتماعية والثقافية المنشودة ، بحيث تكون الأسرة هي المؤسّسة الاجتماعية / التربوية الأولى التي تؤثّر في الوجدان الثقافي والأخلاقي للأفراد ، بواسطة ترسّخه لديهم من قيم ومبادىء أخلاقية عالية .. كما أنّ المدرسة هي المؤسّسة التربوية المكمّلة للأسرة ، وأداة مهمّة تعمل على إرساء أسس الثقافة الوطنية وترسيخها .

 ولا شكّ أنّه في حال تقصير هاتين المؤسستين عن تأدية دورهما التربوي ، فإنّ أفراد المجتمع بوجه عام ، والناشئة منهم بوجه خاص ، سيلجأون إلى مصادر إنتاج أخرى (معرفية / تربوية ) قد لا تنسجم مع قيم المجتمع  وهويته الخصوصية .

        3- التربية المستمرّة ( المستدامة ) :

 إنّ التربية النظامية في إطارها الضيّق ، لم تعد قادرة على مواكبة ظاهرة التغيير العلمي المتسارع ، والتفجّر المعرفي الكبير ، وما يتبع ذلك من تحدّيات يواجهها إنسان هذا العصر . كما أنّه ليس بإمكان التربية أن تقتصر على تكوين الأطر البشرية وفق قوالب جاهزة ، ومطابقة للمعطيات السائدة فحسب . ولذلك لا بدّ أن تكون ذات اتساع وانتشار بحيث تشمل الأفراد من جميع الأعمار ،   وتكون متواصلة مع الإنسان ما دام على قيد الحياة . وهذا أوجد التربية المستمرّة أو ( التربية المستدامة-  Continuous Education ) .

    فالتربية المستمرّة ، تشتمل على كلّ ما من شأنه العمل على توسيع دائرة الوعي الفكري والعلمي والمهني ، لدى الأفراد ، وبما يساعدهم في اتخاذ قراراتهم بأنفسهم وفق المتطلبات المستجدّة ، وبالتالي حفزهم على متابعة العمل الحياتي وتحسينه . فالتغيّرات الحضارية / العلمية والثقافية / المتسارعة ، تضع أمام التربية المستمرّة مدى الحياة ، مطالب تربوية وإنسانية لا يمكن الاستغناء عنها ، ولا سيّما أنّ مضمون محتوى التربية المستمرّة يدور حول مبادىء عامة ، كالبحث عن المعرفة والثقافة والإنتاج والبيئة ، وكيفية التعامل معها .

    وبما أنّ التربية المستمرّة عملية متجدّدة ، فإنّها تهدف إلى استمرارية التحسّن نحو الأفضل ، وإلى تحقيق أعلى درجة من أشكال تكامل الذات الإنسانية .. ولذلك فهي تتميّز بديناميتها وتكييف موادها ووسائلها ، بما يتناسب مع التطوّرات المستجدّة في التربية .

ولذلك يتنامى الاهتمام بالتربية المستمرّة على المستوى العالمي ، بوصفها قاعدة أساسية للتطوّر الإنساني الذي تسعى إليه بلدان العالم أجمع . وفي ذلك يتجسّد الشعار الأساسي للتربية المستمرّة، وهو "التربية للجميع .. التربية مدى الحياة " هذا الشعار الذي فرضته روح العصر الساعية إلى مزيد من التقدّم والتطوّر.

   وهكذا تبدو أهمية التربية المستدامة ، في ظلّ العولمة ، من أهمّ سبل الاستجابة لعالم يسير بخطى واسعة جداً ، يصعب على التربية التقليدية أن تلحق به وتواكب معطياته، إلاّ إذا استطاعت أن تجدّد ذاتها ( محتوى وممارسة ) .. وتبق التربية المستدامة عاملاً أساسياً في مسيرة التغيير ، وتكوين الفرد المستقلّ المبدع ، الذي يتمكّن من التعامل الإيجابي مع معطيات ثقافة المعلوماتية ، وتوظيفها في الاتجاه الصحيح .

رابعاً-سمات التربية في مواجهة تحدّيات العولمة

   يقول إميل دوركهايم : "إنّ التربية تعمل على خلق مجموعة من الحالات الجسدية والأخلاقية والعقلية ، عند الفرد وتنميتها ؛ وهي الحالات التي يتطلّبها المجتمع بوصفه كلاًّ متكاملاً ، والتي يقتضيها الوسط الاجتماعي الخاص الذي يعيش فيه الفرد "  وهذا يعني أنّ التربية عملية اجتماعية من حيث المنطلق والهدف ، وبالتالي فهي مدنية بطبيعتها .

   وانطلاقاً من ذلك ، فإنّ المسؤوليات الأساسية للتربية تكمن في تمكين الإنسان /الفرد من فهم طبيعة المواقف والمشكلات التي يواجهها ، على الصعيدين : الفردي  والاجتماعي ، وإعداده بالتالي للتكيّف مع العصر الحاضر واستشراف آفاق المستقبل.

   أمّا في عصر العولمة ، فإنّ الحاجة ماسّة إلى تربية تحفظ للأمّة هويتها وتميّزها ، تربية تنتقل بها من العمالة العضلية إلى العمالة العقلية .. في زمن التلوّث الفكري والسمعي والبصري والمائي والهوائي ؛ تربية تبني قناعات التغيير من التزامن إلى الزمن المرن ، ومن التركيز الجغرافي إلى الانتشار ، ومن ديمقراطية التمثيل الشمولي إلى المشاركة الشعبية ، ومن التخطيط الجزئي إلى التخطيط الكلّي.

  إنّها التربية التي تخرج النظام التربوي من الحيزّ الضيّق في البحث النظري والخبرة الشخصيّة ، إلى التوسّع في الإفادة من معطيات التجارب العصرية ، التي تتناسب مع أصالة الأمّة وبناء حاضرها ومستقبلها ، بحيث تكون أكثر قدرة على التعامل مع حركة العولمة وتحدّياتها . وهذا يعني أن تمتلك الحركة التربوية / التعليمية سمات الحيوية والنشاط، وتدفعها إلى الإبداع والإنجاز الجيّد  ، بحيث يتخطّى النظام التربوي أية عقبة أو عثرة ..

    ولكي تتمكّن العملية التربوية من إنجاز مهامها في زمن العولمة ، لا بدّ أن تتمتع بالسمات التالية :

      1-التطلّع والطموح نحو الأفضل :

     إذا كان الواقع التربوي الذي نعيشه سيئاً في بعض جوانبه ، فهذا لا يعني أنّه حقيقة حتمية وثابتة ، بل هو نتاج أسباب وعوامل عرَضيّة قابلة للتعديل والتحسين .. فالمؤسّسات التربوية والتعليمية الناجحة ، هي التي تقوّم أداءها بشكل منتظم ، وتخطّط لرفع مستواه وزيادة فاعليته وإنتاجيته ، وبذلك تبقى آفاق التقدّم مفتوحة أمام التربية لتحقيق الأفضل والأشمل ، بالنسبة للفرد والمجتمع .

   2-الثقة بالنفس والجرأة في المعالجة :

    إنّ رؤية إبداعات الآخرين وإنجازاتهم، التربوية والتعليمية ، تدفع الثقة بالنفس  والتوجّه إلى اكتشاف القدرات والطاقات .. ولكن يجب عدم الوقوف موقف الانبهار والإعجاب ، حيث تفقد الثقة وتتجمّد العقول ، بل لا بدّ من إجراء التطوير المناسب لكي لا  تكون العملية التربوية جامدة  أو تابعة للانبهار . وقد يكتشف أنّ العمل التربوي المنفّذ فيه أخطاء ومواطن ضعف ، وهنا يأتي دور الإنسان الواعي المدرك متطلّبات العملية التربوية / التعليمية ، فيقوم بتصحيح الأخطاء وينتزع قراره من الضغوطات التي يواجهها .

  3-انطلاق العقل والرؤية الإيجابية :

     يشكّل عقل الإنسان حجر الأساس في انطلاقته، وإنّ  أي كبت للآراء وعدم إعطائها الفرصة للطرح والمناقشة والتجريب ، يعطّل مسيرة التجديد التربوي ، ولا يحقّق أي تطوير . ولذلك لا بدّ من إعطاء العقل حرية الانطلاق بضوابط تمنعه من الوقوع في الأهواء ، وتمكّنه من تسخير الإمكانات المتاحة من أجل تربية بنّاءة . ويكون للرؤية المتفائلة بالمستقبل ، دور كبير من خلال المنظار التربوي الصحيح ، يتمّ التعامل معه باستعداد عالٍ يواجه التحدّيات .

   4-الأصالة والمعاصرة :

    وهما عنصران متلازمان للعملية التربوية ، التي يراد لها أن تكون في زمن العولمة ؛ فالأصالة بقدر ما تعبّر عن التراث والانتماء فإنّها تكفل التعايش مع المستجدات ومتطلّبات العولمة من دون عوائق . والتمسّك بالأصالة لا يعني رفض المعاصرة ، والعكس صحيح أيضاً ؛ ولا بدّ من المزج والتكامل بين ما هو أصيل ومعاصر . وهذا ما يساعد على إثراء العملية التربوية وإنهاضها .

   5-الشمولية والتواصل والاتّزان :

    إنّ الشمولية سمة هامّة من سمات التربية المعاصرة، فهي شاملة لكلّ ما هو نافع ولا يصادم ، أو يخالف ، المبادىء والقيم ، مع الاستفادة من الآخرين .. فعلى الرغم من ضرورة الحفاظ على الهوية وتميّز عناصرها ، فهي متواصلة مع تجارب المجتمعات الأخرى؛ فلا هي انطوائية على نفسها ، ولا هي تائهة مفرطة بأصولها وذاتيتها .

   إنّ أي نظام تربوي يمتلك تلك  السمات آنفة الذكر ، يستطيع مواجهة تحدّيات العولمة بأسلوب موضوعي وفعّال . وبصورة أكثر وضوحاً ، إذا كانت تلك السمات من ضرورات التربية المعاصرة ، فلا بدّ أن تأخذ بالمضمونات التالية :

- التغييرية / التطوريّة ، التجديدية وليس الجامدة .. والإبداعية لا تربية الذاكرة .

- الحوارية وليس التلقينية ، والديمقراطية وليس التسلّطية .

- الانفتاحية الواعية وليس الانغلاقية ، والتعاونية وليس الفردية .

- التقانية وليس اليدوية ، والذاتية المستمرّة وليس الآنية .

- المنتجة وليس الاستهلاكية ، والشمولية التكاملية وليس الجزئية الضيّقة .

-  وأخيراً ، العملية العقلانية وليس السطحية / التسليمية ، والوثوقية الموضوعية وليس العشوائية أو الارتجالية . أي التربية المعتمدة على التفكير العلمي والبحث والتخطيط ، وليس التربية السطحيّة أو العفوية قصيرة الأمد .

    وإذا كانت ظاهرة العولمة أصبحت واقعاً لا يمكن تجاهله ، أو الاستسلام له ، فإنّ هذه المعطيات / الخصائص ، تطرح أمام التربية مهمّات عديدة وكبيرة ، تستطيع أن تبرهن من خلالها ، عن قدرتها على الاستفادة من إيجابيات ظاهرة العولمة في مواجهة العولمة ذاتها ، وتجنّب سلبياتها وأضرارها ، على الفرد والمجتمع .

خامساً-المؤسّسة التربوية  في مواجهة العولمة

    تعّد المؤسّسة التربوية من قمّتها إلى قاعدتها ، ومن إدارتها المركزية إلى إداراتها الفرعية،  المسؤول الأول عن الإشراف على تنفيذ الخطط التربوية ، ومدى تحقيق أهدافها .ولذلك فإنّ الدور الكبير والمهمّ الذي يجب أن تقوم به المؤسّسة التربوية/ التعليمية ، لمواجهة العولمة وبناء المجتمع المدني السليم، يتمثّل في الإجراءات التالية :

  • ضرورة توفير الخدمات التي تقدّمها تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات ، في قاعات التدريس ، الأمر الذي يتطلّب إعادة تنظيم هذه القاعات وتجهيزها ، واعتماد التقنيات والبرمجيات الحاسوبية، بما تمكّن المتعلمين من الاستفادة  المطلوبة من تلك الخدمات .
  • اهتمام المدارس بمهارات التفكير الإبداعي ، كعنصر رئيس في التعلّم ، وذلك من خلال توفير بيئة تعليمية إبداعية .. وتطبيق إستراتيجية التعليم الشامل في المؤسّسة التربوية ، في مواجهة تأثيرات العولمة في العصر الحديث .
  • ضرورة توحيد المرجعية للمؤسّسة التربوية والإعلامية ، بما يضمن عدم التناقض في الرسالة التي تقدّمها المؤسّستان .. والتأكيد على دور مؤسّسات المجتمع المدني في تحصين الشباب ضدّ آثار العولمة .

1-النظام التربوي في مواجهة العولمة :

   إنّ ما أفرزته الثورة المعرفية والتكنولوجية من تحدّيات واجهت التربية والتعليم ، في ظلّ العولمة ، وضعت أمام المؤسّسات التربوية مهمّات جمّة ، ولا سيّما في مجال تقديم تعليم ذي كفاءة ( جودة ) يتناول النظام التربوي بعناصره  المختلفة ، من التخطيط إلى مضمون التعليم وطرائقه ووسائله . فمهما بلغت كفاءة المعلم ، فلا يكتمل الأثر أو تتحقّق الأهداف إلاّ بالتطوّر النوعي لعملية التعليم والتعلّم ، أي تحقيق الجودة الشاملة في التعليم .

    واستناداً إلى ما تقدّم  ، يمكن تحديد مواصفات كلّ عنصر من عناصر النظام التربوي  في مواجهة العولمة ، على النحو التالي :

    1/1-المعرفة في مواجهة العولمة :

     لم يعد الكتاب المدرسي هو المصدر الوحيد للعلوم والمعارف ، ولم يعد المعلّم هو الناقل الوحيد للمعرفة ؛ ففي ظلّ العولمة ، تعدّدت المصادر والأدوات المعرفية ، وما على المعلّم إلاّ أن يكون منظّما وموجّهاً  للمتعلّم لكي يهيّء عقله ونفسه لتقبّل هذه المعارف ، بطرائق وأساليب حديثة ، تتسّم بالدقّة والشمولية . ويمكن إجمال مضمونات المعرفة العصرية وأساليبها في الأبعاد التالية :

    1/2- تكوين الإنسان الكلّي :

    وهذا يتطلّب السعي لتحقيق التربية المتكاملة ، حيث تهدف العملية التربوية إلى إيضاح قدرات المتعلّم ( الجسمية والعقلية والاجتماعية والروحية ) . كما  تهدف المعرفة في ظلّ العولمة وثورة المعلومات ، إلى تنمية التفكير العلمي ، بمجالاته المختلفة ، ومناهجه ونتائجه .  

    1/3- الشمول المعرفي :

   وهذا يقتضي الإلمام بالمضمونات والمفاهيم التي تحتويها منظومة المعارف الإنسانية ، والتي تتألّف من التربية الأخلاقية والدينية ، واللغويات والاجتماعيات ، والتقنيات والرياضيات ، في ضوء مراحل نموّ المتعلّم وقدراته .. ويتطلّب الشمول المعرفي التركيز على قيمة كلّ نظام معرفي ، ومفاهيمه الأساسية  ومناهجه العملية ، والتي من أجلها يتمّ وضعه كضرورة أساسيّة في مقرّرات التعليم .

    1/4- توظيف الأساليب والطرائق ومصادر المعرفة :

   إنّ العملية التربوية في ظلّ العولمة والمعلوماتية ، لا تستهدف حفظ المعلومات وتذكّرها، لأنّ التكنولوجيا كفيلة بذلك ،  ولكنّ العملية التربوية تدور أساساً ، حول مهارات المعرفة العلمية في طرائق التدريس ، كالفهم والتساؤل والتنظيم والتفسير ، وتوظيف العمليات العقلية كالتصنيف والتبويب والتأمّل والنقد ، ودلالات الزمان والمكان ، واكتساب روح المغامرة واحتمال الصواب والخطأ ، وحلّ المشكلات وتصميم البدائل .

    وبما أنّ العولمة شملت وسائل نقل الأفكار المتعلّقة بمجالات الحياة كافة ، وبسلوك الإنسان، ضمن منظومة معلوماتية ، فلم يعد ثمّة مجال للانغلاق أو العزلة الحضارية بمفهومها الواسع . فالأفكار تقتحم الحواجز وتتجاوز الحدود المادية والمعنوية ، ولذلك فالعزلة عن المعرفة قد تكون أمراً مستحيلاً ، ولا بدّ من الاصطدام الحضاري الإيجابي ، الذي يؤدّي إلى حوار يوصل إلى درجة عالية من الشفافية ، وبلورة العديد من المفاهيم والقيم الجديدة.. ومن ثمّ اقتباس أو أخذ المعقول منها وترك ما يخالفه ..( محاسنة ، 2003 ، 278 ) ولرفع مستوى الاستفادة من العلوم والمعارف التي تحتضنها العولمة ، فلا بدّ من رفع قدرة الكفاءة التقنية للاستفادة من الكم المعلوماتي الهائل ، المتوافر في وسائل العولمة بكفاءة ويسر وفاعلية .

   2-المتعلّم وأهداف التربية في مواجهة العولمة :

   إذا كانت التربية مرتبطة بالمجتمع الذي أنتجها ، منطلقات ومضمونات وأهداف  ، لكي تعدّ أفرادها للعيش الإيجابي فيه ، والإسهام الفاعل في تنميته وتقدّمه ، فإنّه من الضرورة بمكان القيام بإجراء المزيد من الدراسات العلمية ، بهدف التحليل الموضوعي الناقد / المقوّم للفكر التربوي القائم ، والكشف عن مضموناته  وتحديد أهدافه الرئيسة؛ ويكون هذا العمل من خلال رصد الخبرات السابقة وتحليل واقعها ، ودراسة الاتجاهات التربوية العالمية المعاصرة . 

ولا شك أنّه بقدر ما يكون الفكر التربوي واضحاً وقابلاً للتطبيق والممارسة ، يكون وضع الأهداف التربوية – في المقابل- سهلاً وميسّراً ، بحيث تتناسب هذه الأهداف مع متطلّبات العولمة وتحدّياتها للعملية التربوية .

   وبما أنّ المتعلّم هو العنصر الأهم في العملية التربوية / التعليمية ، ومحورها الذي توظّف له العناصر التربوية الأخرى ، فإنّ أهداف التربية في إعداد الفرد ( بناء الفرد ) في ظلّ العولمة ، تتمثّل في الجوانب التالية :

      2/1 - إعداد الفرد للمواطنة والمشاركة الاجتماعية والسياسية:

   إن المجتمع يواجه معضلة حقيقية في سلوك الأفراد ، تتمثّل في انحدار القيم الرفيعة ، ومحاولة الهروب إلى إيمان شكلي تدلّ عليه أنماط السلوك السائدة .. فالمطلوب في ظلّ العولمة تمثّل نماذج من القيم الرفيعة في الإنتاج والعمل والعلاقات الصادقة مع الآخرين..وتقوية اعتزاز الإنسان / المتعلّم بوطنه وقوميته، بطريقة مبنية على تبريرات حياتية عامة ، انطلاقاً من أنّ هناك خطراً على ثقافة الأمّة وهويتها الحضارية .

   وإذا كان النظام العولمي يستهدف الهوية الثقافية / الوطنية ، فإنّ من واجب النظام التربوي أن يعدّ المتعلّم / الفرد ، فكرياً وسلوكياً ، لأداء واجبات المواطنة والمشاركة الإيجابية في الحياة الاجتماعية والسياسية . فلا بدّ أن يتعلّم الفرد في ظلّ النظام التربوي المنشود حقوقه وواجباته ، وأن يمارس الديمقراطية واحترام الآراء الأخرى داخل المؤسّسة التربوية .. وأن يمارس نماذج من الحوار اليومي ، وكيفية العمل مع الجماعة ، وأن يشترك في العمل التطوّعي والتخطيط لبعض الأنشطة (داخل المؤسّسة التربوية وخارجها .)

     2/2- إعداد الشخصيّة المؤمنة بالعمل والإنتاج والإتقان :

   إنّ المؤسّسة التربوية مطالبة – اليوم – بتشكيل إنسان متعدّد المهارات التي تناسب عصر العولمة والمعلوماتية ، مثل مهارات استخدام الحاسب والإنترنت ، ومهارات اكتساب لغة أجنبية بشكل أفضل .. وغيرها من المهارات التي تكسب المتعلّم / الفرد القدرة على التعبير عن الذات ، والاتصال الإيجابي بمن حوله . وهذا يعني  ربط الجانب النظري بالجانب العملي،  بتضمين المناهج نوعاً من التدريب المهاري المتدرّج / المتطوّر ، الذي يكسب المتعلّم العقل العملي والمهارات اللازمة للسيطرة على الأشياء ، ويجعله يحترم الإنتاج ويقدّر قيمة العمل وأهميته وضرورة إتقانه .

     2/3- إعداد الفرد لتقبّل التغيير والمرونة في الاستجابة له :

   تعصف في عالم اليوم ، تغيّرات كثيرة ومتسارعة ، ومتناقضة أحيانا في مضموناتها ..وهذا يتطلّب من النظام التربوي أن يقدّم للمتعلّم تدريباً على المرونة وسرعة الاستجابة للتطوّرات المحلية والإقليمية والعالمية . ولذلك لا بدّ من التركيز على النظام المنهجي في التعامل مع التغيير المقصود أو المفاجىء . . وتزويد الأفراد / المتعلمين بمهارات التعلّم الذاتي لاكتساب المعارف المتجدّدة  ، وتوظيفها بسرعة ، والاستجابة الفاعلة للمستجدّات والتغيّرات الطارئة في المحيط الشخصي والاجتماعي .

      2/4- إكساب الأفراد التفكير الناقد والإبداع والابتكار لصنع المستقبل :

   إنّ المنهج السليم الذي يمتاز بالعلمية والتفكير الناقد ، هو القادر على مواجهة المستجدات في الحياة ، حيث يوفّر القدرة على مواجهة المشكلات واقتراح الحلول العملية / العلمية لها .. ويتطوّر هذا المنهج في التفكير ، ليفضي إلى أجواء تؤدّي إلى التقدّم والإبداع . وهذا يحتاج إلى استثمار الإبداع في شخصيات المتعلمّين ، عن طريق التربية الشخصية المتوازنة  ، والرعاية الكافية في توظيف إنتاج المبدعين ، ونشره وترويجه ودعمه سياسياً .  

   وأخيراً ، لا بدّ من التأكيد على أنّ التربية المتوازنة لشخصيّة المتعلّم ، تتمّ من خلال التربية المتكاملة ( الجسمية والوجدانية والعقلية والاجتماعية ) بحيث يستطيع الفرد أن يتكيّف مع المجتمع ويتفاعل مع الآخرين ، متعاوناً ومنتجاً ومبدعاً ، في إطار مصلحة المجتمع وتطوّره .

   3- المعلّم في مواجهة العـولمة :

   إذا كان المعلّم –إلى عهد قريب- هو محور العملية التعليمية باعتباره الناقل للمعلومات، التي يتوجّب على المتعلمين تلقّيها وحفظها واستظهارها ، فإنّه مطالب –اليوم – أن يكون قائداً فكرياً واجتماعياً وتربوياً ؛ أن يكون معلّما قادراً على مساعدة المتعلّم لكي يكتسب مهارات التعلّم الذاتي ، والبحث عن المعلومات من مصادرها الأساسية ، وبالتالي استرجاع هذه المعلومات وتحليلها ونقدها ، واختيار الأفضل منها وتوظيفها في مواجهة المشكلات الحياتيّة وحلّها بالطرائق المناسبة .

   فلا بدّ إذن من الاهتمام بمهنة التعليم باعتبارها ، أصبحت مهنة ( صناعة الإنسان )، والأساس في رقيّ الإنسان وتقدّم المجتمع .. وهذا يتطلّب تعزيز مكانة المعلّم : الأدبية والمادية، ورفع مستوى تنظيماتها المهنية والثقافية والاجتماعية ، وحفز العناصر المتميّزة على الانخراط في هذه المهنة الشريفة ( المقدّسة ) . فالمنهجية الجديدة التي فرضتها العولمة ، تحتاج إلى تكوين نوعيات جديدة من المعلّمين عالية الكفاءة ، رفيعة المستوى الأكاديمي والمهني والأخلاقي ، نوعيات ذات فعالية في عمليات التغيير الاجتماعي. (مدكور، 2000، 207)ولا سيّما أنّ هناك تحديات معاصر/كبيرة تواجه المعلّم ، مثل العلاقات بين الإنسان والبيئة والتنمية ، والتحوّلات في نظام القيم والعلاقات الاجتماعية ، وثورة المعلوماتية وانعكاساتها على مناحي الحياة ( الاجتماعية والثقافية والفكرية ..) .

    إنّ من أهمّ الموضوعات التنموية التي يركّز عليها تقدّم المجتمع ، وقدرته على مواجهة التحدّيات العديدة والمتسارعة ، ، هو موضوع إعداد المعلّم في القرن الحادي والعشرين ، ومن خلال الاهتمام بالجوانب : ( الشخصية والفكرية والإنسانية ، والمعرفية ، والمهنية ) . ولذلك فإنّ مواصفات المعلّم في عصر العولمة ومسؤولياته، كثيرة ومتنوّعة ، ولعلّ أبرزها يتمثّل في الجوانب التالية :

3/1- أن يستند المعلّم ، في عمله وسلوكه ، إلى قاعدة فكرية متينة وعقيدة إيمانية قويّة، ويحضّ على العلم والعمل والأخلاق . وذلك انطلاقاً من إدراكه أهمية المهنة التي يمارسها ، وقدسية رسالتها والارتقاء بها . وأن يدرك ، ومن خلال نظرة نُظُميّة / منهجية وعلمية متطوّرة ، موقعه وأهمية دوره في عصر العولمة والانفتاح العلمي والثقافي .

  3/2- أن يدرك المعلّم أنّه في عصر ثورة المعلوماتية وتقنيات الاتصال المتطوّرة ، لم يعد المصدر الوحيد الذي يتلقّى منه المتعلّم المعارف والاتجاهات ، بل أنّ هناك تأثيراً عميقاٌ وشديداً لبعض  وسائل الإعلام والاتصال ، كالحاسب والإنترنت والتلفزيون والفيديو ، ممّا يفرض على النظام التربوي عامة ، وعلى المعلّم خاصة ، مسؤولية كبرى ذات اتجاهين :

  • الأوّل ، يتلخّص في الاستخدام الإبداعي لهذه التقنيات ، وتوظيفها بفاعلية لمصلحة العملية التربوية ، وتحقيق نوعيّة تعلّم ذات جودة عالية .
  • والثاني : يركّز على بناء علاقات تشاركية فاعلة بين العاملين في المدرسة والأسرة ووسائط الاتصال ، ومؤسّسات المجتمع المدني كافة .. وذلك بهدف بناء إستراتيجية تربوية وطنيّة متكاملة ، تسعى لإعداد جيل المستقبل – جيل القرن الحادي والعشرين ، إعداداً يمكّنه من استيعاب متطلّبات العصر ومستجدّاته استيعاباً واعياً ، والاندماج الفاعل في مجتمع القرية الكونية .

      3/3- أن يدرك المعلّم أهمية الفئة من المتعلمين ، التي يتعامل معها وأنّها النواة الأساسية للتغيير والتطوير . فيستوعب خصائصها ويتلمّس احتياجاتها النمائية ، ويراعي الفروق الفردية فيما بين أفرادها.وأن يدرك أنّ المتعلمّين ينظرون إليه كقدوة ومثال ، وأن سلوكه يؤثّر فيهم أكثر من كلامه .

        3/4- وأخيراً ، أن يدرك المعلّم أنّ مهنة التعليم لها قواعد وأصول تتطلّب كفايات معيّنة لممارستها ، وعليه أن يهيّء نفسه للتعامل مع شبكة المعلوماتية، وامتلاك المهارات التي توصله لتوجيه الطلبة إليها،  وتدريبهم على استخدامها بفاعلية .

     إنّ كلّ ما تقدّم ذكره ، يؤكّد دور المعلم في مواجه العولمة ، وضرورة زيادة كفاياته العلمية والمهنية ، ليكون عنصراً فاعلاً في العملية التربوية ، وليس عنصراً حيادياً، في عصر العولمة بتجلياتها وأبعادها المختلفة .

   4- المناهج الدراسيّة في مواجهة العولمة :

  إذا كان النظام التربوي أحد فروع النظام الاجتماعي العام ، فإنّ المناهج الدراسية هي الأداة الرئيسة التي تستخدمها التربية  لتنفيذ أهدافها . ولذلك يعدّ المنهاج الدراسي التركيبة الأساسية المناط بها ترجمة الفلسفة التربوية ، إلى أساليب وإجراءات تربوية تطبيقيّة دا خل حجرة الدراسة ذاتها ، فتستمرّ فعاليتها في ذهن المتعلمّ ويبقى تأثيرها في سلوكه ، انطلاقاً من طبيعة النشاط التربوي المنفّذ لتحقيق السلوك المرغوب ، والأهداف المنشودة .

   وانطلاقاً من أهمية المنهاج في العملية التربوية / التعليمية ، فلا بدّ من اتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع مناهج تربوية تساعد الناشئة في مواجهة العولمة ، ومن أهم هذه الإجراءات:

      4/1- تقويم المناهج الحالية :

   ويتمّ ذلك بإجراء دراسة تحليلية / تقويمية شاملة للمناهج الحالية ، للوقوف على  مدى قدرتها على مواكبة العولمة ، بمفاهيمها وقيمها ، بحيث تعتمد هذه الدراسة الجانبين التاليين:

    الجانب الأول : معرفة المفاهيم المرتبطة بالعولمة أو ذات الصلة بها ، مثل :  (النظام العالمي الجديد ، وحوار الحضارات ، والهوية الثقافية ، والاستقلال الثقافي ،و التبعية الثقافية ، والغزو الثقافي ، وحقوق الإنسان ، والتعاون الدولي ، والسلام العالمي ..)  .

   الجانب الثاني : معرفة القيم التي يتبنّاها النظام التعليمي ، وهل هي قيم تقليدية أو قيم حديثة ؟ أو تجمع بين التقليدية والحداثة ؟ وما هي معادلة التوازن المثلى بينهما في المناهج الدراسية ؟

     4/2- تثبيت القيم والاتجاهات الأصيلة :

   وذلك بوضع خطّة تشمل المواد الدراسية المختلفة لتنمية القيم الثابتة ، وتطوير الاتجاهات اللازمة لإعداد الإنسان / الفرد لمواجهة تحدّيات العولمة ، ومتطلّبات القرن الحادي والعشرين.

    وثمّة قيم ثقافية عامة لا بدّ من تنميتها ورعايتها تتمثّل في :

  • وعي الحقوق الإنسانية مع الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية ، وتعزيز الروح التعاونية.
  • الإيمان بقيمة العدالة الاجتماعية والمشاركة الديمقراطية في اتخاذ القرار الوطني ، وإدراك التقارب في المساواة بين الجنسين .
  • فهم الفروق الثقافية والتعددية وفلسفة التسامح معها ، وتفتّح العقل وتهيئته للتغيير .
  • تطوير روح الرعاية والعناية ، وتأصيل الالتزام بحماية البيئة والتنمية المستمرّة .

     4/3- الثقافة الذاتية والإنسان المستهدف :

   لا بدّ للقائمين على تصميم المناهج الدراسية ، من وضع تصوّر للمعلومات والمعارف والمهارات ، التي يجب أن تتوافر للمتعلّم ، مع التأكيد على الاهتمام بالقيم الثابتة التي تؤصّل ذاته ، وتبرز هويته وتحافظ على كينونته ..فالتصوّر الصحيح لما يملأ العقل والوجدان ، يمكن أن يبشّر بمواصفات الإنسان الذي ينبغي على المناهج الدراسية أن تعدّه لمواجهة تحدّيات العولمة .  ولهذا فإنّ أهم دور للمناهج المدرسية في مواجهة العولمة ، كأيديولوجية ، هو أن تبرز الذاتية الثقافية عند المتعلمين ، ملتمسة في سبيل تحقيق ذلك ، المظاهر والأنماط الثقافية كافة ، والتي تؤكّد هذه الذاتية وتعمل على تأصيلها .

    واستناداً إلى المعطيات السابقة عن طبيعة المناهج الدراسية ، لمواجهة تحدّيات العولمة، فلا بدّ أن تتطوّر هذه المناهج بحيث تتّسم بما يلي :

  • مساعدة المتعلمين في فهم أكبر للعولمة وكيفيّة التعامل معها ، وإدراج موضوع العولمة ضمن الموضوعات التي تدرّس في الجامعات .
  • تطبيق فكرة التعليم المتوائم الذي يحقّق التكامل بين الخصوصية الثقافية ومتطلّبات المنظومة العالمية .وتنمية الفكر الناقد لتحقيق التفاعل الإيجابي مع ثقافات الآخرين ، قبولاً أو رفضاً .
  • تطوير المناهج لمواجهة أساليب التشويه المعرفي والتاريخي ، وإبراز دورها في المحافظة على الهوية الثقافية وتطوير القدرات والإمكانات الفردية والجماعية ، وتقوية القيم والمبادىء والأعراف الاجتماعية الصحيحة .
  • العمل على محو الأميّة التكنولوجية ، من خلال الأنشطة التي تكسب المتعلمين القدرة على الاستخدام المفيد للمعلومات ، في غرس سلوكيات حبّ الاستطلاع والتركيز على التعلّم الذاتي ، ودوره الفعّال في عملية التعليم .

   والخلاصة ، إنّ ثقافة التربية المجتمعية المطلوبة في زمن العولمة ، لا بدّ أن تجدّد النظام التربوي وفق معطيات العلم الحديث ، وبما يضمن حلّ المشكلات التربوية وتجويد التعليم كمّا وكيفاً . فالتركيز على تربية الناشئة تربية مجتمعية أمر لا بدّ منه ، من خلال تبنّي استراتيجيات تربوية / ثقافية ، تؤدّي إلى نشر الوعي الثقافي والتفكير العلمي ، في مواجهة تحدّيات العولمة والدخول في العصر العالمي الجديد بثقة وثبات ، في إطار مجتمع مدني متماسك في بنيته ومنطلقاته.