العولمة الثقافية والتعليم

إعداد

الأستاذ الدكتور/ نبيل سعد خليل *

تشهد الإنسانية اليوم ظاهرة عالمية غربية تسمى العولمة The Globalization تسعى لتوحد فكرى ثقافى واجتماعى واقتصادى وسياسى، تحمل تحدياً قوياً لهوية الإنسان العربى خاصة بما يستهدف الدين والقيم والفضائل من خلال التركيز على الناحية الثقافية وتوظيف وسائل الاتصال ووسائل الإعلام، والشبكة المعلوماتية Internet والتقدم التكنولوجى بشكل عام لخدمة ذلك، مما حول العالم إلى قرية صغيرة، فلم يعد هناك أى حواجز جغرافية أو تاريخية أو سياسية أو ثقافية، وأصبح العالم يخضع لتأثيرات معلوماتية وإعلامية واحدة تحمل قيم مادية وثقافية ومبادئ لا تتوافق مع قيمنا ومبادئنا، منافية للتعاليم الدينية، كما أن هناك توجه استهلاكى مفرط نحوها.. دون وعى أو تمييز لنوعية المادة المستهلكة وتأثيرها على تربية وثقافة الأفراد المستهدفة تحت تأثير إغراء لا يقاوم من التدفق الصورى والإعلامى المتضمن انبهاراً يستفز ويستثير حواس ومدارك الأفراد بما يلغى عقولهم ويجعل الصورة التى تحطم الحاجز اللغوى هى مفتاح الثقافة الغربية الجديدة الذى تستهدفه العولمة.

وتدعو العولمة إلى إيجاد ثقافة كونية أو عالمية تحوى منظومة من القيم والمعايير لفرضها على العالم أجمع، وحيث أن البعد الاقتصادى للعولمة يؤثر بقوة فى الجانب الثقافى، فإن من يملك مقاليد القوة الاقتصادية يستطيع أن يفرض ثقافته على الطرف الأضعف اقتصادياً. وبالتالى يتخوف البعض من العولمة الاقتصادية التى تسعى إلى فرض عالمى لثقافة الغرب، ومحو الثقافات الأخرى التى تتعارض معها، وبخاصة ثقافة الدول الصغرى تحت وطأة الغزو الثقافى العالمى. وغالباً ما تعجز هذه الدول عن وقاية نفسها من تأثيرات الثقافة الوافدة، أو قد تدفع الجماعات الثقافية والدينية إلى الاحتماء بخصوصيتها هرباً من طوفان العولمة.

وثقافة العولمة ليست ثقافة مكتوبة فقط، وإنما ثقافة الصورة أيضاً، بحيث أصبحت الصورة تشكل عنصراً أساسياً فى اكتساب المعرفة بصرف النظر عن القيم الأخلاقية والدينية، حيث يلعب الإعلام ووسائل الاتصالات الحديثة دوراً رئيساً فى الغزو الثقافى، مما يؤدى إلى هيمنة ثقافات الغرب على ثقافات الشرق، نظراً للتفوق العلمى لتقنيات الإعلام الغربى ووسائل اتصالاته.

وتشير العولمة الثقافية إلى الانفتاح غير المسبوق للثقافات على بعضها البعض وبلوغ البشرية مرحلة الحرية شبه الكاملة لانتقال الأفكار والاتجاهات والبيانات والمعلومات والأذواق وانتشارها فيما بين الثقافات وبأقل قدر من القيود التقليدية، كما أنها تحمل فى طياتها نوعاً أو آخر من الغزو الثقافى، أى من قهر الثقافة الأقوى لثقافة أخرى أضعف منها.

ولكى نكون أكثر واقعية يمكن القول بأن العولمة الثقافية تسعى إلى تسييد الثقافة الغربية بصفة عامة، والثقافة الأمريكية بصفة خاصة وفرضها على غيرها من الثقافات، مما يؤدى فى نهاية الأمر إلى هيمنة الثقافة الأمريكية وطمس الهوية الثقافية للشعوب الضعيفة وإزالة مقوماتها.

والهوية الثقافية لأى مجتمع من المجتمعات تعرف بأنها جميع السمات المميزة للأمة كاللغة والدين والتاريخ والعادات والتقاليد والقيم وأنماط العلاقات الاجتماعية وطرائق التفكير وسبل السلوك والتصرف وغيرها، مما يحفظ للأمة شخصيتها الراسخة عبر عصور التاريخ وتميزها عن غيرها من الأمم، وهى نمط معيشى يتفاعل مع المتغيرات المحيطة به فيكتسب الجديد منها دون أن يذوب فيها.

لذا تختلف ثقافة العولمة اختلافاً كبيراً عن الثقافات الوطنية، التى تتصف بالخصوصية والقدرة الفائقة على ربط أصحابها بخصائص وجدانية وفكرية مشتركة، بينما تعجز ثقافة العولمة عن توليد الإحساس المشترك أو المصير المشترك أو امتلاك ذاكرة جماعية.

وتساعد القنوات الفضائية والإعلام الإلكترونى فى تسويق الثقافة وترويجها على نطاق العالم، بالإضافة إلى زيادة التفاعل الثقافى بين الشعوب والمجتمعات، وإلى تنامى ترابطها واتصالاتها. غير أننا نعلم أن تيار العولمة يتدفق بثقافة غربية غالباً ما تتعارض بوجه عام مع قيمنا ومبادئنا وحضارتنا، وقد استغلت الولايات المتحدة الأمريكية تميزها الكبير فى الإنتاج الفنى والتلفازى وفى الصناعات الترفيهية وشركات الأقمار الصناعية فى التأثير فى الأفراد والمجتمعات. وهى تبذل قصارى جهدها فى نشر ثقافة مادية بحتة لا تعترف بالروحانيات ولا بالمشاعر الإنسانية، ولا تفسح المجال للعلاقات الاجتماعية الدافئة القائمة على المحبة والوئام والتعاون والتكامل. وحيث أن ثقافة العولمة بطبيعتها ثقافة كونية فهى لا تعبأ بالهوية ولا تأبه بالانتماء ولا تكترث بحقوق المواطنة ولا بتوفير فرص العمل، ولا تضع فى اعتبارها وجود ثقافات متعددة.

وللعولمة الثقافية آثار سلبية تتمثل فى أنها: خطر يهدد مستقبل الإنسان فى حريته وتمايزه الحضارى والثقافى، كما أنها تؤدى إلى الانقسام والتفكك وإحداث شروخ فى الأبنية الثقافية للشعوب، فضلاً عن محاولة طمس معالم الثقافة الوطنية أو إظهارها بمظهر العاجز، حيث تفرض العولمة فكراً يعتمد على ما أنتجته ثورة المعلومات والتكنولوجيا، بالإضافة إلى أنها أداة للسيطرة على وعى الشعوب واتجاهاته الفكرية، وربطها بمشاهد وصور ذات طابع إعلامى تستولى على العقول وتشل فاعليتها، وتنمط الأذواق من أجل تكريس نوع معين من الاستهلاك لنوع معين من المعرفة والسلع.

كما تسعى العولمة الثقافية إلى زيادة الشعور بالاغتراب، وإضعاف الانتماء الوطنى وزيادة التفكك الداخلى، ونشر ثقافة العنف، والتسطيح الفكرى والثقافى والحد من القدرة على الإبداع، وزيادة حدة الفوارق الطبقية والاجتماعية وتهديد السلام الاجتماعى، بالإضافة إلى الترويج لأنماط معينة فى العلاقات الأسرية والاجتماعية والجنسية السائدة فى الغرب.

لذا يمكن القول بأن الهدف الأساسى للعولمة الثقافية هو تشكيك أمم الحضارات العريقة فى حضاراتها ونفسها وعقائدها وتغريب إنسانها فى أفكاره ومناهج تعليمه. وتتمثل مظاهر العولمة الثقافية فيما يأتى:

  • طرح الأساسيات الدينية سواء كانت مبادئ إيمانية أو أحكاماً شرعية، تلبية لدعاة الفكر الإلحادى والنظريات المنحرفة عن المسلمات الدينية، وما تمثله من عقائد إيمانية راسخة عند الغالبية المطلقة من سكان هذا العالم.
  • الخروج بالمرأة عن أنوثتها الفكرية الإنسانية باسم الحرية أو العمل وتحويلها إلى سلعة يتاجر بها ووسيلة جذب فى الإعلانات والدعايات، وعلى أغلفة المجلات والصحف الإباحية وتقديمها فى البرامج والإعلانات الإغرائية.
  • دفع الأسرة إلى التفكك والتمرد المتبادل بين أفرادها والحرية فى ممارسة الرذائل.
  • تحريف المفاهيم المنبثقة من الثقافة والإقتداء بالنماذج الغريبة فى السلوك والثقافة، وفى أسلوب الحياة على اختلاف تنوعها.
  • جعل السيادة للغة الأجنبية على حساب اللغة القومية،واللغة ليست مجرد ألفاظ جادة، لكنها تمثل فى الحقيقة مظهراً وجوهراً ثقافياً، لأنها تنقل من خلال مصطلحاتها وتركيباتها ومؤثراتها قيم أمتها.
  • سيادة المادة والنفعية على القيم التى توراثها المجتمع الإنسانى من التعاون والإيثار والتكافل.
  • الاتجاه إلى الانحلال الخلقى والجريمة المنظمة وسيادة روح الاحتقار والانتهازية.
  • الاتفاقيات الثقافية والاقتصادية والمؤتمرات التى تقرر القيم من خلالها على الدول الأخرى،وربط المساعدات لهذه الدول بمدى التزامها بهذه القيم مثل: مؤتمر السكان بالقاهرة عام 1994م، ومؤتمر المرأة بالصين عام 1995م.
  • ما تنشره وسائل الإعلام وما تقدمه القنوات الفضائية من أفلام وبرامج وغير ذلك من تدخل الدول الغربية المباشر وغير المباشر فى المناهج التعليمية والثقافية والدينية، ومطالبة الدول العربية بصفة خاصة بحذف فقرات تتصل بالأديان والشعوب الأخرى كالذى يتصل باليهود وسلوكهم ومواقفهم من الأنبياء.

وفى ضوء ما سبق هناك سؤال يمكن إثارته فى هذا الصدد هو: أى نمط من أنماط التعليم يمكن تطبيقه؟ وهل يتم نقل نموذج معين من التعليم من الدول الرأسمالية المتقدمة وتطبيقه كما هو فى ظل بيئة وظروف مختلفة فى دول تنتمى إلى العالم العربى؟.

فالتعليم أمر ضرورى وتطويره من الأمور الواجبة واللازمة ولكن من خلال عملية التطوير لابد من توخى الحذر من الوقوع فى أسر العولمة من الناحية الفكرية والثقافية والتعليمية، وبعبارة أخرى فإن التعليم يجب أن يكون بحرص ودون الإخلال بأنساق القيم والأفكار الاجتماعية السائدة فى المجتمع، ودون التفريط فى عقيدة المجتمع وثوابته حتى لا تتحول عملية تطوير التعليم إلى تقويض لما هو قائم لحساب أفكار جديدة غريبة على المجتمع وبعيدة عن واقعه وتطرح فى النهاية آثارها السلبية على المجتمع ككل.

وتأسيساً على ذلك فإن عملية تطوير التعليم فى ظل العولمة تتطلب الحفاظ على القيم الإيجابية السائدة فى المجتمع أو ما يمكن تسميته بالتكامل القيمى للمجتمع حتى لا يكون التطور المادى (التكنولوجى) على حساب التطور الفكرى وتكامل المجتمع وتجانسه، لذلك فإنه بالنسبة للدول العربية يكون من المفيد الأخذ بالمزايا التكنولوجية وتطوير التعليم دون تجريده من سماته الوطنية والأصيلة، وتبدو هذه المهمة فى زمن العولمة أكثر مما كانت عليه فى زمن الثورة الصناعية على سبيل المثال، ويفسر ذلك بتعاظم الضغوط التى تواجهها الدول العربية فى زمن العولمة، ويتعاظم التقدم التكنولوجى والرغبة فى اللحاق بما سبق،ولذلك فالدول العربية مطالبة بالبحث عن الصيغة السليمة التى يمكن خلالها تحقيق الغرضين معاً أى الاستفادة من التكنولوجيا المتقدمة دون فقدان خصائصها المتميزة.

لذا يمكن القول إن التعليم أصبح ذا وظائف متعددة، حيث يتجاوز دوره إعداد القوى البشرية للإسهام فى سوق العمل إلى الحفاظ على التراث الثقافى بما يتفق مع حركة المجتمع مع الاستفادة مما لدى الآخرين. ويؤدى فهم ذلك البعد إلى تطوير التعليم، واستحداث نظم تعليم جديدة ذات فعالية كبيرة، إن التعليم المستمر هو الذى يكفل النهوض بمختلف الجوانب الصحية والنفسية والمهارية والقيم الأخلاقية، كما إن رفع القدرات التنافسية من خلال التعليم يقتضى مشاركة إيجابية من القطاع الخاص، الذى يستطيع الإسهام فى التمويل وبناء المدارس والجامعات ومراكز التدريب، مع الانتباه إلى مدى التأثير الذى تمارسه العولمة على السياسات التعليمية فى الدول النامية.

ويمكن أن تلعب المؤسسات التعليمية ومؤسسات الإعلام والثقافة دوراً مهماً فى توعية الطلاب وأفراد المجتمع بمخاطر العولمة، وفى تنمية القدرة على الاختيار العاقل، وتعزيز الانتماء للوطن والارتباط الوثيق بقيمه وتراثه الحضارى، وتوفير البديل المقنع عن الثقافة الوافدة.

وللارتقاء بالتعليم والنهوض بالتنمية البشرية لابد من تطوير مناهج التعليم وطرق تدريسها بهدف تنمية عوامل الابتكار والإبداع، والتنسيق بين سياسات التعليم والسياسات التكنولوجية، ووضع برامج مركزة لإعداد الكوادر العلمية والتقنية القادرة على استخدام الأجهزة والمعدات الحديثة، هذا بالإضافة إلى الاهتمام بالتعليم الفنى، وإقامة مراكز متخصصة فى التقنية المتطورة للتعليم والتدريب بمشاركة حكومات الدول العربية والقطاع الخاص، وتشجيع تشييد الجامعات والمعاهد التقنية المتخصصة، والاستعانة بالخبرات الأجنبية فى مجال التدريب والتأهيل، وتصميم برامج تدريبية متخصصة فى مجالات إدارة الأعمال والتسويق والبرمجيات والاتصالات ومستويات الجودة العالمية. كما ينبغى على الدول العربية تخطيط مشروعات قومية للتدريب المهنى وتنمية المهارات التقنية للطلاب فى جميع مراحل التعليم، بالإضافة إلى إدخال مادة التفكير العلمى وطرق البحث فى مناهج التعليم الثانوى والجامعى.

 

(*)  أستاذ ورئيس قسم التربية المقارنة والإدارة التعليمية، كلية التربية بسوهاج، جامعة جنوب الوادى