المنهج التاريخي (الإستردادي) في التربية المقارنة
مقدمة:
يقوم العلم- أي علم - على ثلاث دعائم رئيسية، أولها وجود ظواهر تعتبر موضوعاً لدراسة هذا العلم، وثانيها وجود منهج يتخذ أساساً لدراسة ظواهر العلم وموضوعاته ومشكلاته، وثالثها الوصول إلى مبادئ عامة أو قوانين تحكم هذه الظواهر، ومن ثم تعتبر مناهج البحث من دعائم العلوم، وبدونها لا تعتبر الدراسة علما أو بحثاً علمياً.
وهناك تقسيمات متعددة للبحوث، إلا أنه يمكن القول بأن البحث نوعان هما:
البحث الأساسي أو الأكاديمي: Basic Research
وهو البحث الذى يقوم به الباحث ليشبع نهمه العلمي وتعطشه لمعرفة الحقيقة، ويرضى حبه للاستطلاع، وتبدأ البحوث الأساسية بالإجابة عن سؤال تتصل إجابته اتصالاً مباشراً بالبناء الفكري للعلم، وتهدف إلى التوصل إلى حقائق وتعميمات وقوانين علمية محققة، من أجل تكوين نظام معين من الحقائق والقوانين والمفاهيم والنظريات العلمية.
وللبحث الأساسي- رغم ذلك- دوره في التطبيقات التربوية داخل المؤسسات التربوية، ومن ذلك بحوث علم النفس في مجال التعليم.
البحث التطبيقي: Applied Research
وهو البحث الذى يبدأ بحل مشكلة قائمة، ولذلك فإن الباحث يشتق فروضه من الاحتمالات العلمية التي تقتضيها طبيعة حل المشكلة ويهدف البحث التطبيقي إلى تطبيق المعرفة العلمية المتوافرة، أو التوصل إلى معرفة لها فائدتها في حل بعض المشكلات الملحة.
ومن أمثلة البحوث التطبيقية ما يلى:
- البحث الميداني Field Research: وهو ذلك البحث الذى يهتم بالمعالجة السريعة للمشكلات، بصرف النظر عن علاقاتها بالمشكلات الأخرى، وهو يفيد في الخطط محددة الأجل.
- بحث الفعل Action Research: ويقصد به تطبيق الإجراءات العلمية على المشكلات الواقعية بصورة يتعاون فيها العاملون في الميدان مع الباحثين، ولهذا يطلق عليه أحياناً البحث التعاوني Cooperative Research، كما أن الباحث في بحث الفعل لا يهتم بمجرد الكشف عن أسباب المشكلات، ولكنه يهتم أيضاً بالوصول إلى طرق معالجتها واستخدام هذه الطرق لإحداث التغيير.
ويقصد بمنهج البحث التربوي هو أسلوب لتقصى الحقائق المرتبطة بظاهرة معينة، ومحاولة إعطاء تفسيرات لمثل هذه الظاهرة، وتهدف هذه العملية بشكل أساسي إلى التوصل لبعض القوانين العامة، التي تشكل بدورها- بعد ثبات صحتها وصدقتها- مؤشرات يمكن الاسترشاد بها في مواجهة المشكلات.
أو هو الدراسة المنطقية والمنظمة للمبادئ التي توجه الاستقصاء العلمي، وهو أحد فروع المنطق، ويبحث في مناهج العلوم المختلفة.. ولا تبتكر هذه الدراسة طرقاً للبحث، ولكنها تدرس فقط المناهج المستخدمة، وذلك بتحليل بناء العلوم، بدراسة أهدافها، وكيفية نموها، وأنواع التعليمات التي تتضمنها، وأسسها أو فروضها الفلسفية وعلاقتها بالعلوم الأخرى.
ومعنى ذلك أن منهج البحث في علم من العلوم أمر لا يأتي من خارج هذا العلم، وإنما هو يأتي من أعماقه ذاتها، ليكون مناسباً له ومحققاً لأهدافه، وقادراً على تطويره، وعلى دفع خطوات البحث فيه وفق منطق العلم ذاته، أي أن منهج البحث هو طائفة من القواعد من أجل الوصول إلى الحقيقة، أو هو مجموعة من المبادئ والممارسات والإجراءات التي يتم تطبيقها في فرع محدد من فروع المعرفة، أو بوصفه يعمل على إيقاف الباحث على كيفية تصميم البحث، وطريقة تنفيذه.
ويعرف منهج البحث أيضاً، بالطريقة التي ينبغي أن يسير عليها الباحث في دراسته لظاهرة علمه، لكى يصل إلى نتائج يقينية في الكشف عن طبيعة الظواهر، وما يكتنفها من أسباب ومسببات، وما تخضع له من قوانين.
أما فيما يتعلق بأنماط البحث العلمي، يميز جارى أندرسون Gary Anderson بين تسعة أنماط من البحوث هي: البحث التاريخي، والوصفي، والتجريبي، والكيفي، وبحوث العلاقات، وبحوث السياسات، ودراسات الحالة، وتقويم البرامج، والتقويم التنظيمي.
ويشرح أندرسون Anderson الفرق بين هذه الأنماط من خلال طرح مثال لكيفية تعامل كل نمط منها مع موضوع دمج ذوى الاحتياجات الخاصة في المدارس النظامية، فيوضح أن جوهر اهتمام البحث التاريخي وأسئلته الرئيسية سوف تدور حول الكيفية التي كان يُعامل بها ذوى الاحتياجات الخاصة في الماضي، في حين يهتم المنهج الوصفي بمعرفة نسبة الأطفال المصنفين من ذوى الاحتياجات الخاصة وكيفية تضمينهم في المدارس، أما البحث التجريبي فسيتناول أداء وتوجهات الأطفال الذين تم دمجهم في المدارس النظامية، ومقارنة ذلك بأولئك الذين تلقوا تعليمهم في مدارس خاصة بهم، في حين تتناول بحوث العلاقات أفضل التنبؤات فيما يتعلق بدمج هؤلاء الأطفال، وتهتم البحوث الكيفية بماذا يحدث لثقافة الفصول النظامية عندما يتم دمج الأطفال بها، أما بحث تقويم البرامج فستركز على تقييم مدى نجاح برنامج النظام المدرسي الذى قام بدمج الأطفال، وتهتم دراسة الحالة بالوقوف على ما حدث لجون سميث John Smith عندما تم دمجه بالفصول النظامية، أما بحوث السياسات فستبحث عن أهم الطرق التي يمكن للنظام المدرسي أن ينتهجها لدمج هؤلاء الأطفال بفعالية، وتأتى بحوث التقويم التنظيمي في نهاية الأمر لتقف على المتطلبات الأساسية التي تحتاجها المدرسة لنجاح عمليات دمج الأطفال.
ونتناول فيما يلى: المنهج التاريخي أو الاستردادي في دراسة التربية المقارنة.
المنهج التاريخي أو الاستردادي في دراسة التربية المقارنة:
المنهج التاريخي أو الاستردادي هو المنهج الذى يستخدمه الباحثون الذين يتعلقون بتجارب الماضي، بقصد دراسة وتحليل بعض المشكلات التي ترجع بجذورها إلى التجربة الإنسانية في أطوار مختلفة. ولذلك يقول هؤلاء الباحثون بأنه يصعب علينا فهم الحاضر إلا بالرجوع إلى الماضي، والحياة الحاضرة هي امتداد طبيعي للحياة الغابرة.
والمنهج التاريخي هو عملية منظمة من عمليات جمع البيانات وتقديمها بأسلوب موضوعي، وتتصل هذه البيانات عادة بأحداث الماضي، ويتم جمعها وتحليلها من أجل اختبار صحة الفروض الخاصة بالظاهرة التي تتناولها الدراسة أو أسباب تلك الأحداث وتأثيراتها واتجاهاتها، وهو يساعد بالإضافة إلى وصف الماضي وتحديد واقعه إلى تفسير الأحداث الحالية وعمل توقعات عن الأحداث المستقبلية. والعديد من الباحثين المبتدئين يميلون إلى التقليل من أهمية البحث التاريخي، ويعتقدون أنه يفتقر إلى المزايا الحقيقية للبحث العلمي الرصين، ولكن بالتأكيد هذا الاعتقاد ليس له ما يبرره، إلا إذا كان البحث التاريخي يعانى أصلاً من ضعف في تصميمه وتنفيذه، وفي الواقع فإن إجراءات الضبط التي تسهم في حالة المنهج التاريخي لا تقل في نوعيتها عن الإجراءات المستخدمة في مناهج البحث الأخرى. فالمنهج التاريخي يتضمن القيام بجمع البيانات المطلوبة بطريقة منظمة وموضوعية، ويعمل على إثبات صحة الفروض، أو عدم صحتها وذلك من خلال إتباع الأساليب العلمية الرصينة.
وفي ضوء ما سبق يمكن القول بأن المنهج التاريخي هو منهج استردادي أو استرجاعي لأنه يحاول أن يسترد أو يسترجع ما جرت عليه أحداث التاريخ في مجرى الزمان. أي أن المنهج التاريخي هو نوع من البحث والاستقصاء لأحداث الماضي، ويحاول استرداد أو استرجاع ما حدث في الماضي.
لذا يعتبر المنهج التاريخي من المناهج الأساسية في الدراسات التربوية المقارنة، لأنه من غير المقبول أن يدرس الباحث الظاهرة التربوية التي تتضمنها دراسته دون أن يحاول الوقوف على الجذور أو الأصول التاريخية لها، والتي يعد الوضع الراهن لهذه الظاهرة تطوراً لها.
وقد تركزت اهتمامات الباحثين في الدراسات التربوية المقارنة على محاولة فهم النظم التعليمية المختلفة وتفسير وتحليل أسباب وجودها في الوضع الراهن بالصورة التي هي عليها، ولماذا تحمل بعض النظم التعليمية المختلفة مظاهر تعليمية متشابهة، ولماذا تحمل في نفس الوقت مظاهر تعليمية مختلفة، وما هي القوى والعوامل الثقافية التي تقف وراء كل ذلك. من أجل كل هذا يرى الباحثون في الدراسات التربوية المقارنة أن دراسة النظم التعليمية في واقعها الراهن دون دراسة تاريخها وماضيها تُعد دراسة ناقصة ومعيبة، لأننا لا يمكن أن نفهم النظم التعليمية الحالية إلا في الظروف التي أوجدتها، وهذه الظروف بعضها موجود في تاريخ هذه النظم وماضيها. ومن أجل ذلك كله فإن الدراسات التربوية المقارنة ترتبط ارتباط وثيق بتاريخ التربية وتاريخ التعليم على اعتبار أنهما معاً طريق مباشر لفهم النظم التعليمية وتفسير أسباب الاختلافات أو التشابهات فيها، وكشف القوى والعوامل المختلفة التي أثرت في سياساتها وأشكال مؤسساتها، بالإضافة إلى فهم المشكلات التعليمية التي تواجه هذه النظم، وإيجاد حلول لها، كل هذا انطلاقاً من مسلمة صادقة وهى أن النظم التعليمية هي محصلة لتاريخ طويل عانته التربية في كل مجتمع خلال تطوره ونموه لتحقيق أهدافه ولحل مشكلاته، وللمحافظة على قيمه وتراثه، أو لتطوير ذاته وفقاً لما تفرضه ظروف التغيير ومتطلباته.
وقد جذب استخدام المنهج التاريخي لدراسة التربية قادة التربية المقارنة خلال النصف الأول من القرن العشرين، وقاد هذا الاهتمام بالتاريخ إلى دراسة القوى والعوامل الثقافية المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية- في سياقها التاريخي- التي أحدثت في كل مجتمع ما يمكن تسميته التقاليد القومية National Traditions أو الطابع القومي (الشخصية القومية National Character)، وأثرت بالتالي على نوع السياسات والنظم التعليمية. وبهذا فإن هذا المنهج التاريخي يؤكد على أن سياسات ونظم التعليم لا يمكن فهمها أو دراستها بمعزل عن البيئة الاجتماعية والثقافية التي توجد فيها أو بمعزل عن الأهداف السياسية والظروف الاقتصادية التي مرت بها.
ويُعد كاندل Kandel أول وأشهر من استخدام المنهج التاريخي في دراسة التربية المقارنة، وكتابه عن التربية المقارنة يُعد مرجعاً هاماً للتعرف على هذا المنهج في دراسة التربية المقارنة. وقد أكد كاندل Kandel على ضرورة إتباع منهج البحث التاريخي في دراسة التربية المقارنة، وهو المنهج الذى يعتمد على الرجوع إلى الوثائق والمصادر ذات الصلة بموضوع الدراسة، وتتبع هذه الوثائق والمصادر لفترة زمنية معينة، ثم النظر في الحقائق والوقائع التي تقدمها هذه الوثائق والمصادر والاستدلال منها على القوى والعوامل الحقيقية التي أدت إلى نشوء الظاهرة التربوية وتطورها وتحركها. وفي سياق هذا المعنى يقول كاندل Kandel: تتطلب التربية قبل كل شيء تقديراً للعوامل الثقافية والدوافع الروحية الخفية التي تقف خلف النظام التعليمي، تلك العوامل والقوى الخارجة عن نطاق المدرسة التي هي أهم من العوامل الموجودة داخلها فعلاً.
وأيضاً يرى فريدريك شنايدر Freidrick Schneider أن نظام التعليم وفلسفته وأهدافه نتاج العديد من المؤثرات كالطابع القومي والموقع الجغرافي والنواحي الاقتصادية والسياسية والمؤثرات الدينية والتاريخية، أي أن العوامل التاريخية أساس لا يمكن لدارس التربية المقارنة تجاهله وإهماله في دراسته لنظم التعليم أو مشكلاته أو غيرها.
وترجع أهمية البحث التاريخي في المجال التربوي إلى ما يلى:
- توفر الدراسات والبحوث التاريخية محتوى معرفياً علمياً لتاريخ التربية والتعليم في دول معينة أو في دول العالم المختلفة، ويمكن اعتبار هذا المحتوى المعرفي تراثاً علمياً لا غنى عنه للمشتغلين في الأمور التربوية والتعليمية.
- تزودنا بالجذور التاريخية للنظريات والممارسات التربوية التي تطورت وانتشرت وتقدم لنا تفسيراً لها.
- توفر للباحثين المادة العلمية اللازمة لهم لإدراك الصلة الوثيقة بين التربية وبيئاتها التربوية والاجتماعية بكل مكوناتها والعوامل المختلفة المؤثرة والمتأثرة بها.
- تساعدنا نتائج البحوث التاريخية في التربية على تعميق فهمنا للمشكلات التعليمية وتحديد الإجراءات والعمليات اللازمة لتحسين التعليم وتطويره في الحاضر وفي المستقبل.
- تقدم لنا البدائل والحلول لمواجهة المشكلات التعليمية من خلال ما تزودنا به من تجارب الدول الأخرى والدروس المستفادة منها.
والدراسة التاريخية في التربية المقارنة دراسة علمية، وهى لذلك تحرص على أن تتبع الخطوات الأساسية للمنهج العلمي، والتي تتمثل فيما يلي:
الخطوة الأولى: اختيار مشكلة البحث وتحديدها:
يجب أن يراعى في اختيار موضوع البحث التاريخي الأهمية العلمية للمشكلة، وتوافر المراجع والمصادر والوثائق المتعلقة بالمشكلة، وجدية الموضوع، والحاجة إلى البحث في هذا الميدان، والزمن الذى يمكن توفيره للبحث، وتدريب الباحث على الأسس العلمية لتطبيق المنهج التاريخي في الدراسة المراد إجرائها، لذا يجب على الباحث أن يقوم بتحديد مشكلته تحديداً زمانياً أو مكانياً أو موضوعياً بعد أن يكون قد قرأ عنها وحولها، بما يسمح له بصياغتها صياغة علمية في عبارات وإن كانت بسيطة فإنها واضحة ومحكمة.
الخطوة الثانية: وضع فروض البحث:
بداية نود أن نشير إلى أن صياغة الفروض في البحث التاريخي لا تختلف في الأصل عن صياغة الفروض في أي نوع من أنواع البحوث الأخرى، ولكن اختلاف طبيعة البحث التاريخي تقتضى حتماً اختلافاً في نوعية الفروض وكيفيتها، وتتطلب مهارة من نوع خاص. وإن كان يرى البعض أنه في الدراسات التاريخية والوصفية يمكن صياغة مشكلة البحث في صور تساؤلات.
وجدير بالذكر أن الحادثة التاريخية تتميز بعدة أمور منها، غيابها وكونها وقعت في الماضي البعيد أو القريب، وأنها فريدة في نوعها لا تتكرر مهما قيل أن التاريخ يعيد نفسه، ومنها أن الحادثة التاريخية متعددة العوامل ومتشابكة الأسباب، بالإضافة إلى أن هذه الحادثة قد وقعت في زمان ومكان قد يختلفان كثيراً أو قليلاً عن الزمان والمكان الحاضرين، وما يسودها من مفاهيم وعادات وتقاليد وغير ذلك. ومن هنا كانت صعوبة افتراض الفروض التاريخية وحاجة الباحث إلى معلومات وبيانات ووثائق غزيرة، وخيال واسع خصب، ومغامرة علمية مدروسة، ومن هناك كانت درجة اليقين التي تنتهى إليها الفروض التاريخية أقل بكثير من درجة اليقين التي يتوصل إليها عالم الطبيعة من فرضياته.
وبعد أن يجمع الباحث الحقائق ويستقصى المصادر ويخضعها للنقد الداخلي والخارجي لابد له من الربط بينهما بفرضية تعلل الظاهرة التي تتناولها الدراسة، وتبين أسبابها وتحدد نتائجها. فالفروض إذن لا توضع إلا بعد قراءات حول موضوع البحث فارتياد الموضوع خطوة سابقة على وضع لفروض وصياغتها.
وتساعد الفروض العلمية في:
- تقدير المادة العلمية المناسبة للدراسة.
- تنظيم المادة العلمية تنظيماً سليماً.
- عدم التحيز نحو جانب من الجوانب وإهمال جوانب أخرى.
الخطوة الثالثة: جمع المادة العلمية:
إن جمع المادة التاريخية وكذلك دراستها وتحليلها يثير صعوبات خاصة بالنسبة للباحث، ويرجع ذلك إلى أنه لا يعيش الزمن أو العصر الذى يدرسه، فهو بعيد عن الأحداث التي يبحثها، ويصعب عليه تكرارها في صورتها الحية الفعلية، أو إخضاعها للملاحظة المباشرة، ومن هنا كان عليه أن يجمع مادته التاريخية عن طريق مصادر أخرى تشمل الرجوع إلى آثار ومخلفات الماضي، وإلى خبرات وملاحظات وروايات أشخاص آخرين، تتفاوت من حيث كونها مصادر أولية أو ثانوية، وفي كل هذه الحالات ينبغي أن يعتمد إلى حد كبير على الاستدلال العقلي والتحليل المنطقي للمادة التاريخية.
ويقسم المؤرخون المصادر التاريخية إلى نوعين رئيسيين، هما:
- المصادر الأولية:
تُعد المصادر الأولية هي المراجع الأساسية في كل دراسة تتبع المنهج التاريخي، فهي الأصل للحادثة أو الظاهرة أو الخبرة، وهى جوهرية ومجسمة النشاط التاريخي، وبما أن الباحث لا يمكن أن يشهد بنفسه حوادث الماضي، لذلك يقوم ببذل الجهد لكى يحصل على أفضل الشواهد وأفضل مادة تاريخية من مصادرها الأولية. فيحاول الاستناد إلى هذه الشواهد أو الأدلة الأصلية لتكون حلقة الوصل بينه وبين هذه الحوادث ومن أمثلة هذه الشواهد ما يلى:
- الشهادة العينية أو السمعية لشهود موثوق بهم معروفين بالكتابة الموضوعية والمحايدة، وفي الرواية والتاريخ ممن عاشوا الماضي بحوادثه أو عاصروها أو كانوا من ضمنها أو قريبين منها.
- الآثار المادية والأشياء العينية التي استخدمت في الماضي، فبقيت منه، حيث من الممكن فحصها بطريق مباشر، وفهم الماضي من خلالها.
وتنقسم المصادر الأولية إلى نوعين، هما:
النوع الأول: الآثار:
ويوجد أنواع متعددة من الآثار والمخلفات التي تتصل بجماعة معينة، أو بعصر من العصور التاريخية، يستطيع أن يستفيد منها الباحث في دراسته لحدث أو موضوع تاريخي معين، فدراسة آثار مدينة مندثرة تكشف لنا من البيانات والمعلومات عن أسلوب حياة هؤلاء الناس، ومعتقداتهم الدينية وتقاليدهم وطرق معيشتهم، وبالرغم مما توفره هذه الدراسة من معلومات إلا أنها وحدها غير كافية لبيان الصورة.
النوع الثاني: الوثائق:
وهى السجلات التي تستخدم في تسجيل وتثبيت الواقع والأحداث، وهى عكس الآثار وجدت لتنقل إلينا المعلومات عن الواقع والأحداث الماضية، وهى تكتب من قبل أشخاص اشتركوا فعلاً في الواقعة أو أنهم شهدوها، وأن مثل هذه المصادر تعد عن قصد لنقل بيانات ومعلومات لاستخدامها في المستقبل كمصادر أولية، وتأتى الوثائق بأشكال متعددة منها:
- السجلات الشفهية: وتتمثل بالحِكَمْ والأمثال، والأساطير، والقصص، والخرافات الشائعة، والحكايات الشعبية، والأغاني الفولكلورية... إلخ.
- السجلات المكتوبة: وتشتمل على جوانب عديدة منها: السجلات الشخصية، والسجلات الرسمية، والسجلات المصورة، والسجلات الميكانيكية، والمواد المنشورة كالصحف والكتابات والمقالات الدورية والأعمال الأدبية ... إلخ.
وبتطبيق هذا في مجال الدراسات التربوية المقارنة، نجد مثلاً قيام الباحث بدراسة عن التعليم الأساسي في مصر، قد يرى الباحث دراسة المدارس النموذجية التي أسسها الأستاذ القباني، وفي مثل هذه الدراسة يمكن الرجوع إلى الأساتذة الذين شاركوا في العمل بهذه المدارس ممن هم على قيد الحياة.
والمصادر الأولية أيضاً تتمثل في الوثائق الرسمية التي صدرت في الحقبة التاريخية التي ندرسها من قوانين وقرارات وزارية وإحصاءات تعليمية وموازنات مالية ومناهج دراسية ومحاضر وجلسات اللجان والاجتماعات والمجالس والتقارير، وتتمثل في المطبوعات التي أصدرتها هيئات أو أفراد في شكل محاضر أو مذكرات وغيرها.
أما فيما يتعلق بالآثار فهي كل ما يتمثل في المخطوطات والمباني المدرسية والتجهيزات والأدوات التعليمية.
المصادر الثانوية:
وتشمل هذه المصادر ما يرويه شخص معين من معلومات نقلاً عن شخص آخر شاهد فعلاً واقعة معينة في الماضي أو شارك فيها، ويشهد له أيضاً بكفاية روايته، وواضح أن المصدر الثانوي يروى عن مصدر أولى، وأن الراوي الثانوي أو كاتب المصدر الثانوي لم يكن موجوداً أو شاهداً على الواقعة، وإنما يروى أو يكتب ما قاله أو كتبه شخص حضر فعلاً هذه الواقعة.
والمصادر الثانوية قد تكون أكثر إتقاناً فيما إذا كان للباحث القدرة على التبصرة، ويكون أكثر صلة في الحقيقة عندما يقارن المصادر الثانوية فيما بينها، مع الاعتماد على المصادر الأولية كلما اقتضى الأمر. ولذا ينبغي على الباحث أن يتوخى الدقة العلمية والموضوعية خاصة عند قيامه بفحص مصادره بعناية، ويتأكد من صحتها وأمانتها في نقل الحقيقة من خلال إخضاع تلك المعلومات للنقد.
وفي مجال الدراسات التربوية نجد أن المصادر الثانوية تعالج أحداثاً في تاريخ التعليم أو في تاريخ التربية، وقد كتبت بعد الرجوع إلى المصادر الأولية، أو مصادر ثانوية رجعت بدورها إلى مصادر أولية.
ومن ذلك فإن هذه المصادر يجب ألا تكون المرجع الأساسي الوحيد في الدراسات التاريخية لأنها مصادر منقولة عن مصادر أولية أو عن روايات أشخاص نقلاً عن أشخاص آخرين حضروا فعلاً هذه الأحداث، مما يكثر من احتمالات الخطأ المقصود أو غير المقصود، وعلى أية حال فإن هذه المصادر لها أهميتها في كونها تمثل نوعاً من الأدب التربوي، يفتح الباب أمام الباحث لدراسات أخرى، ويبين ما يبذل في دراسة قضية تربوية ما من مجهود.
كما أنها- مع المصادر الأولية- تساعد الباحث على وضع فروض دراسته. لكن هل يقوم الباحث بالاستناد إلى المصادر- الأولية والثانوية- والنقل عنها وتحليلها وتفسيرها بمجرد عثوره عليها؟.
الخطوة الرابعة: نقد المادة التاريخية:
من العمليات الأساسية في المنهج التاريخي نقد المادة التاريخية التي يجمعها الباحث سواء استخدم في الحصول عليها مصادر أولية أو مصادر ثانوية، والغرض من هذا النقد التأكد من صدق المصدر وصحة المادة التي يتضمنها أو ينقلها. ومن العبارات المعروفة عن الدراسات التاريخية أن «الشك هو بداية الحكمة في هذه الدراسات».
وينقسم النقد التاريخي إلى نوعين رئيسيين، هما:
- النقد الخارجي:
يهتم النقد الخارجي بالوثيقة نفسها وليس على الفقرات التي تحتويها، كما يهتم بالأشكال التحليلية للبيانات وليس بتفسيرها أو معناها وذلك في ضوء علاقتها بالدراسة.
ويهدف هذا النقد إلى التحقق من صحة الوثائق من حيث انتسابها إلى أصحابها وإلى العصر الذى تنسب إليه وكذلك دراسة هذا العصر من حيث خصائص وملامح معينة تعطى للباحث مؤشرات يمكن في ضوئها أن يستدل على مدى صحة الوثيقة.
وينقسم النقد الخارجي للوثائق عادة إلى قسمين هما:
نقد التصحيح:
ويهدف إلى التحقق من صحة الوثيقة في سردها لواقعة معينة أو أكثر ونسبتها إلى صاحبها، وإن هذه النقطة أساسية لضرورة التأكد من سلامة الوثائق من التزوير والتزييف في الحقائق.
ومن الضروري معرفة الباحث بأن وجود الوثائق يتمثل بالحالات الآتية:
- الحالة الأولى للوثيقة: وتكون مكتوبة بخط المؤلف نفسه، وهنا يدرس نفس الوثيقة أو نسخ مصورة منها.
- الحالة الثانية للوثيقة: لا تكون مكتوبة بخط المؤلف الأصلي، وإنما بخط شخص آخر، ولا يوجد سوى نسخة واحدة فيدرس هذه الوثيقة نفسها.
- الحالة الثالثة للوثيقة: وجود أكثر من نسخة أو مخطوطة فتدرس جميعها للوصول إلى الأصل من خلال الأخطاء ومواضعها، ولا يمكن الاعتماد على قدم المخطوط كمعيار وحيد لصحة الوثيقة.
نقد المصدر:
من غير المعقول أن نستخدم معلومات عن واقعة ما في أوراق وثيقة لم يعرف عنها شيئاً ولم يكن في وسع الباحث أن يعرف عنها شيئاً، ولهذا ينبغي الحصول على الإجابة عن بعض الأسئلة- عندما تكون الوثيقة أمامنا- مثل: من أين أتت؟ ومن مؤلفها؟ وما تاريخها؟ فالوثيقة التي لا يعرف شيء عن مؤلفها تاريخا ومكان كتابتها، وأيضاً مصدرها، هي وثيقة لا تفيد شيئاً.
وبعد التأكد من صحة الوثيقة كما كتبها صاحبها يتطلب الأمر، معرفة مصدر الوثيقة ومؤلفها وزمن كتابتها، وتعد هذه العملية من الصعوبة بحيث تجعل الباحث في الدراسات التاريخية مفترضاً أن كل الوثائق مزيفة ومحرفة إلى أن يثبت صحتها، وللتحقق من صحة المصدر يقوم الباحث بالخطوات التالية:
- دراسة الخط الذى كتبت به الوثيقة لاختلاف الخط باختلاف العصور.
- فحص الوقائع وذلك من خلال فحص محتوى الوقائع ومقارنتها بالزمان المنسوب إليها ومدى صحة وقوعها في هذا الزمان.
- المصادر التي استندت عليها الوثيقة ومدى اتفاق الوثائق في روايتها للواقعة.
- استقصاء آراء الآخرين الذين اقتبسوا من المصدر على أن يكونوا معاصرين وذكروا مواضعها واقتباسها.
وعموماً فإن النقد التاريخي للوثيقة يهتم بالتحقق من شخصية الكاتب وزمن الوثيقة ومكانتها وإعادتها إلى شكلها الأصلي.
- النقد الداخلي:
بعد الانتهاء من النقد الخارجي للمادة التاريخية، يأتي دور النقد الداخلي الذى يهتم بالتحقق من معنى وصدق المادة الموجودة في الوثيقة، وينقسم النقد الداخلي إلى:
النقد الداخلي الإيجابي:
ويهتم هذا النقد بفهم المعنى الحقيقي لنص الوثيقة كما يقصده المؤلف، أي أن العملية في الواقع هي عملية تفسير للمعنى الذى ترمى إليه ألفاظ وعبارات الوثيقة، ويمكن أن يكون تحديد معنى عبارة أو كلمة عملاً معقداً، فكثير من الكلمات في الوثائق القديمة لا تعنى اليوم نفس الشيء الذى كانت تعنيه بالأمس. فما يقصده الناس بمصطلحات معينة في زمن معين قد يكون له معنى ومدلول آخر عند استخدام الناس له في الزمن المعاصر، على اعتبار أن اللغة تتطور وبعض المفردات تكتسب معانى جديدة من عصر إلى عصر ومن كاتب إلى آخر.
لذا يجب على الباحث أن يكون على دراية ومعرفة بلغة العصر الذى كتبت فيه الوثيقة، وأن يعرف اللغة الخاصة بالمؤلف حتى يستطيع أن يفهم المعاني الموجودة بالوثيقة على الوجه الأكمل، وقد يتطلب ذلك المعرفة الدقيقة بالتاريخ والعادات واللغات بأساليبها القديمة والحديثة.
النقد الداخلي السلبى:
بينما يفيد النقد الداخلي الإيجابي في معرفة العمليات التي أدت إلى كتابة الوثيقة وآراء كاتبها، فإنه يبقى بعد ذلك معرفة مدى مطابقة الآراء أو التصورات لما حدث بالفعل، ذلك أن هذه الآراء والتصورات إنما تعبر في الواقع عن وجهة نظر صاحب الوثيقة، ومن المحتمل أن يكون ما كتبه معبراً عن رأيه الحقيقي، لكنه قد يكون غير صادق، وعلى فرض صدقه وإخلاصه، فليس من الضروري أن يكون ما اعتقده صادقاً إذ من المحتمل أن يكون قد خدع.
ولذلك فإن النقد الداخلي السلبى يمكن الباحث من معرفة مدى الصدق أو الخطأ أو التحريف فيما كتبه مؤلف الوثيقة. وهل كتب الوقائع عن ملاحظة مباشرة أم رواية مسموعة، وما هي الوسائل التى استخدمها لجمع هذه المعلومات، وهل كتبها في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة جعلته لا يذكر الحقائق كاملة أو يشوهها.
وبصفة عامة يجب على الباحث عند قيامه بالنقد الداخلي السلبى أن يتشكك دائماً في صحة الوثائق التاريخية، وأن يستخدم كل وسيلة ممكنة للتأكد من مقدار صدق المؤلف والثقة فيما كتبه، لذا يقوم الباحث بمحاولة الإجابة عن أسئلة متعددة، من أهمها ما يلى:
- هل المؤلف شاهد قدير يعتمد عليه ويوثق فيه؟
- هل تتوافر لديه القدرة على الكتابة المتخصصة؟
- هل هناك عوامل معينة (السن، الصحة، الضغوط) أثرت على ما كتبه؟
- هل كتب الوثيقة إبان الأحداث أم بعدها بفترة؟
- هل هناك مصادر رجع إليها أم كتبها من الذاكرة؟
- هل للمؤلف تعصبات معينة؟
- هل قام أحد بتمويل المؤلف بحيث قد يكون من عوامل انحرافه في الكتابة؟
- هل شوه المؤلف الحقيقة؟
- هل تتفق أقوال المؤلف مع روايات أخرى؟
والباحث في تاريخ التربية عندما يقرأ وثيقة ما يجب أن يقرأها بمنظار العصر الذى صدرت فيه.
ويلى ذلك تصنيف الحقائق ومحاولة الربط بينها ودراسة العلاقة بين الظاهرة موضوع الدراسة وما يتصل بها من ظواهر، وهنا نجد التصنيف والتحليل والتفسير والتعليل ومناقشة العلاقات.
والبحث التاريخي في مجالات التربية يعمق فهمنا لقضايا التربية والتعليم ويقدم لنا الجذور التاريخية للتطبيقات التعليمية وتطورها، كما يساعد على إيجاد تفسيرات لها.
إن الناظر إلى حاضرنا التعليمي وما فيه من مشكلات، من أهمها ما يلى:
- النظرة الجزئية إلى التربية والتعليم.
- الازدواج التعليمي: تعليم ديني/ تعليم مدنى، تعليم أكاديمي/تعليم فنى، أدبى/ علمي.... إلخ.
- المغالاة في قيمة الدراسات النظرية ومكانتها في تعليمنا. نقول إن الناظر إلى حاضر التعليم المصري ومشكلاته إذ ما رجع إلى تاريخنا وماضينا الاجتماعي والتربوي التعليمي تمكن من تفسير هذه المشكلة وغيرها.
وفي ضوء ما سبق، يتضح لنا أن هذه الخطوات تمثل لب المنهج التاريخي، وعلى الباحث في مجال الدراسات التربوية المقارنة أن يتبع هذه الخطوات، بل وأن يلتزم بها إذا أراد أن يكون علمياً وموضوعياً. إلا أن الباحث في الدراسات التربوية المقارنة علاوة على إتباعه هذا المنهج والتزامه به عليه أن يلاحظ نقاطاً ثلاث تمييزاً لعمله عن عمل المؤرخ الصرف، وهذه النقاط هي:
- إن الاهتمام الرئيسي بالنسبة للباحث في الدراسات التربوية المقارنة ليس بالحدث، فهو لا يصرف كل الجهد في اكتشاف الحدث أو رصده أو جمع المادة العلمية الخاصة به، كما أنه لا يبذل كل الجهد في نقد المادة العلمية للتأكد من صدقها أو من عدمه، وإنما الاهتمام الأول للباحث في الدراسات التربوية المقارنة هو بدراسة القوى والعوامل الثقافية التي أدت إلى حدوث الحدث والتي شكلته بالصورة التي بدى بها. ومعنى ذلك أن عمل الباحث في الدراسات التربوية المقارنة فيما يختص بالأحداث التربوية الماضية يجب أن ينصب على التفسير، وأن يكون هذا التفسير تفسيراً حضارياً، يرجع فيه الباحث إلى مختلف القوى والعوامل الثقافية المؤثرة التي يمكن أن تكون قد أثرت في نشأة الحدث وتطوره وتشكيله، وأن يحاول الربط بين المؤثرات والعوامل المختلفة في سياق حضاري واحد.
- أن الباحث في الدراسات التربوية المقارنة يجب أن يسعى في النهاية وراء المقارنة. وقد لا يقوم في دراسة أو بحث أو بإجراء المقارنة أو المقابلة، إلا أن قضية المقارنة تشغله دائماً وتؤرقه. ولذلك فإن الباحث في الدراسات التربوية المقارنة لا يهمه دائماً أن يختار دراسة نظام تعليمي فريد في الماضي. أو مشكلة تربوية ماضية لا مجال لإحداث مقارنات خاصة بها. فدراسة عن تاريخ التعليم في العصر المملوكي في مصر، أو دراسة إدارة التعليم عند ملوك الطوائف في الأندلس، أو دراسة التعليم الديني في صدر الإسلام، دراسات قد تُهم المؤرخ التربوي، ولكنها لا تهم كثيراً الباحث في الدراسات التربوية المقارنة، وإن استفاد بها في بعض دراساته. إنما يجب على الباحث أن يختار- من منظور المنهج التاريخي- مشكلة تربوية معينة في حقبة تاريخية في بلد ما ويقارن بين حال هذه المشكلة بحالها في نفس الحقبة في بلد آخر، أو يقارن مع حالها في نفس البلد في حقبة أخرى محاولاً دائماً إيجاد التفسيرات والتعليلات التي جعلت هذه المشكلة في هذا البلد أو ذاك، وفي هذه الحقبة أو تلك الصورة التي كانت عليها. وأن تكون هذه التفسيرات والتعليلات تفسيرات حضارية أو ثقافية تضع المشكلة في إطارها الحضاري أو الثقافي وفي علاقتها بما يحيط بها من قوى وعوامل مؤثرة.
- أن الباحث في الدراسات التربوية المقارنة مهما رجع إلى التاريخ أو غاص فيه فإن عينه على الحاضر ساعياً إلى فهمه. فدراسة تاريخ التربية بالنسبة له ليست هدفاً في حد ذاته، وإنما هي أداة له تعينه على فهم الحاضر. والرجوع إلى الأصول التاريخية للمشكلة التربوية أو النظام التعليمي في بلد معين أو في أكثر من بلد هو بالنسبة له تمهيد لدراسة الحاضر وفهمه سواء للمشكلة التربوية أو النظام التعليمي. النقطة الثالثة المهمة للباحث في الدراسات التربوية المقارنة، هو الوصول إلى فهم سليم للحاضر، وهذا الفهم لا يتأتى له إلا بتتبع نشأة المشكلة أو النظام تاريخياً تمهيداً للوصول إلى الأوضاع الحاضرة للمشكلة أو النظام التعليمي. والتتبع هنا لا يعنى تتبع تغير الشكل الظاهري التربوي أو الحدث التربوي نظاماً كان أو مشكلة، وإنما ما يرتبط بهذه الظاهرة أو الحدث من مؤثرات ومتغيرات. ولعل كل دراسة حالة Case Study أو دراسة منطقة Area Study في التربية المقارنة تتطلب من الباحث أن يقدم لبحث حالته، أو المنطقة التي يدرسها بفصل تاريخي يتتبع فيه نشأة وتطور المشكلة أو النظام- موضوع الدراسة- تاريخياً مبيناً القوى والعوامل التي أثرت على المشكلة أو النظام والتي جعلتها تبدو على صورتها التي وصلت إليها تمهيداً لعرض المشكلة في حاضرها وحدودها وأبعادها والعلاقات القائمة بين المشكلة في حاضرها والقوى والعوامل الثقافية المؤثرة عليها.
ومن الدراسات التاريخية في مجال التربية المقارنة:
- دراسة باطس Butts بعنوان: «التاريخ الثقافي للتربية الغربية» A Cultural History of Western Education، ويتناول فيها تطور التربية والتعليم في الدول الغربية والقوى الاجتماعية والثقافية من العصر الهيلينى وحتى منتصف القرن العشرين، وهو كتاب أقرب إلى الدراسات المقارنة منه إلى تاريخ التربية والتعليم.
- دراسة أ.د/ محمد سيف الدين فهمى بعنوان: «أثر التقدم العلمي والتكنولوجي على نظم التعليم في بعض دول أوربا الغربية»، واختار في هذه الدراسة خمس دول هي إنجلترا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا، وقام الباحث في عرضه التاريخي لتطور نظام التعليم في دول المقارنة بتقسيم المدى الزمنى للدراسة إلى المراحل التالية:
- مرحلة ما قبل سنة 1870م.
- المرحلة من 1870م إلى 1918م.
- المرحلة من 1918م إلى 1994م.
- المرحلة من 1994م إلى 1960م.
- دراسة أ.د/ عبد الغنى سيد أحمد عبود بعنوان: «دراسة مقارنة لتاريخ التربية»، وتناولت الأيديولوجيا والتربية عند الإغريق والرومان حتى العصور الحديثة في الشرق والغرب.
- دراسة أ.د، نبيل سعد خليل بعنوان: «دراسة مقارنة للتعليم الجزائري في فترتى الاحتلال الفرنسي للجزائر والحكم الوطني»، استعرض فيها القوى والعوامل الثقافة وانعكاسها على التعليم الجزائري في فترة الاحتلال الفرنسي، والقوى والعوامل الثقافية وانعكاسها على التعليم في فترة الحكم الوطني، وأخيراً قام بعرض تحليل مقارن للتعليم الجزائري في فترتى الاحتلال الفرنسي والحكم الوطني.
المراجع
- أحمد إسماعيل حجى. التربية المقارنة، القاهرة: دار الفكر العربي، 1998م.
- جابر عبد الحميد جابر وأحمد خيرى كاظم. مناهج البحث في التربية وعلم النفس. الطبعة الثانية. القاهرة: دار النهضة العربية، 1978م.
- خير الدين على أحمد عويس. دليل البحث العلمي. القاهرة: دار الفكر العربي، 1997م.
- سهير بدير. البحث العلمي: تعريفه- خطواته- مناهجه- أدواته. القاهرة: دار المعارف بمصر، 1982م.
- عبد الجواد بكر وهدى صميدة. منهج البحث المقارن في التربية (خرائط المقارنة- الدراسات المجالية- المعايير). طنطا: دار ومكتبة الإسراء للطبع والنشر والتوزيع، 2005م.
- عبد الرحمن بدوى. مناهج البحث العلمي. القاهرة: دار النهضة العربية، 1968م.
- عبد الرحمن عدس. أساسيات البحث التربوي. عُمان: دار الفرقان، 1992م.
- عبد الغنى عبود وآخرون. التربية المقارنة والألفية الثالثة: الأيديولوجيا والتربية والنظام العالمي الجديد، القاهرة: دار الفكر العربي، 2000م.
- عزيز حنا داود وأنور حسين عبد الرحمن. مناهج البحث في العلوم السلوكية. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1991م.
- محمد سيف الدين فهمى. المنهج في التربية المقارنة، الطبعة الثانية: مكتبة الأنجلو المصرية، 1985م.
- محمد منير مرسى. البحث التربوي وكيف نفهمه؟. القاهرة: عالم الكتب، 1994م.
- نوال محمد عمر. مناهج البحث الاجتماعية والإعلامية. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1986م.
- يحيى مصطفى كمال الدين السيد. «دراسة مقارنة لجودة البحوث العلمية ببعض الجامعات الأجنبية وإمكانية الإفادة منها بالجامعات المصرية». رسالة دكتوراه غير منشورة. كلية التربية. جامعة عين شمس، 2008م.
