الرِبـا

بين اليهودية والإسلام

أولاً: في اليهودية

تجدر الإشارة أولاً إلى أن التوراة قد أقرت قيمة من القيم الإنسانية الأخلاقية الرفيعة، وهى قيمة العطاء ومساعدة الغير دون مقابل : « وَإِذَا افْتَقَرَ أَخُوكَ وَقَصُرَتْ يَدُهُ عِنْدَكَ فَاعْضُدْهُ غَرِيباً أَوْ مُسْتَوْطِناً فَيَعِيشَ مَعَكَ. لاَ تَأْخُذْ مِنْهُ رِباً وَلاَ مُرَابَحَةً بَلِ اخْشَ إِلَهَكَ فَيَعِيشَ أَخُوكَ مَعَكَ. فِضَّتَكَ لاَ تُعْطِهِ بِالرِّبَا وَطَعَامَكَ لاَ تُعْطِ بِالْمُرَابَحَةِ."([1]).

وواضح من النص السابق أن الشريعة تحرم على اليهودى الإقراض بربا، ليس ذلك فحسب، بل قضت بإبراء المدين وإسقاط الدين عنه فى نهاية كل سبع سنين، إن كان معوزاً([2]).

وتأكيداً على حرمة الربا فقد وصف العهد القديم المرابى بأبشع الصفات([3])، كما أشار فى الغالب إلى مفهوم الربا -لغة - بلفظ " נשך " (نِشِخْ) من الفعل " נשך    " (ناشَخْ) بمعنى قرض أو عَضَّ ، مما يدل على أن هذا المفهوم فيه معنى أكل لحوم البشر([4]).

والتعريف البسيط للربا فى اليهودية هو أن يقرض الشخصُ آخرً مالاً إلى مدة معلومة نظير زيادة على المبلغ الأصلى([5]).

ولا يقتصر تحريم الربا على التداول بالنقود فقط، بل يدخل فيه كذلك كل ما هو متقوم بمال كالطعام والثمار ونحوه، حسبما يستفاد من النص التوارتى السابق، فهو الزيادة على الأصل بأى حال.

كما لا يقتصر تحريم الربا على المرابى، وهو المقرض أو الدائن، وإنما كذلك يحرم على المقترض، بل وإمعاناً فى الحرمة يحرم كذلك على كل من الضامن والكاتب والشاهد، لقول التوراة([6]) "لا تضعوا عليه"([7]).

ولشدة حرمة الربا فقد اعتبر حزقيال المشتغلين بها مستحقين للموت([8])، ومع ذلك فلا يوجد فى العهد القديم ذكر لأى عقوبة مقدرة بشأنها، وإن كانت تصنف ضمن المخالفات أو النواهى عموماً، والتى قدر الفقهاء عقوبتها بالجلد أربعين جلدة، إلا أنه رغم مخالفة كل من المقرض والمقترض، فلا حد أو جلد على أى منهما؛ ذلك لأن الفائدة أو الزيادة قابلة لرد، فتحصل من الدائن، أو المقرض وترد إلى المدين([9]).

وعلاوة على ذلك، فإن المتأمل نص سفر اللاويين السابق يستشعر، وعن قرب روح الوحى الإلهى المحمَُلة بمعانى الخير والعدل المطلق اللذين لا يعرفان التحيز، إلا أننا نواجه بنص توراتى آخر يناقض أو يقيد النص السابق ورد فى سفر التثنية على النحو التالى:

" לֹא-תַשִּׁיךְ לְאָחִיךָ, נֶשֶׁךְ כֶּסֶף נֶשֶׁךְ אֹכֶל:  נֶשֶׁךְ, כָּל-דָּבָר אֲשֶׁר יִשָּׁךְ.  כג,כא לַנָּכְרִי תַשִּׁיךְ, וּלְאָחִיךָ לֹא תַשִּׁיךְ "

« لا تُقْرِضْ أَخَاكَ بِرِباً رِبَا فِضَّةٍ أَوْ رِبَا طَعَامٍ أَوْ رِبَا شَيْءٍ مَا مِمَّا يُقْرَضُ بِرِباً . لِلأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِباً وَلكِنْ لأَخِيكَ لا تُقْرِضْ بِرِباً "[10]).

ويبدو أن اليهود وأحبارهم قد فسروا تحريم الربا، فيما بعد، فى نطاق الجماعة اليهودية فحسب، لتظل ازدواجية المعايير الأخلاقية شاهداً على تشاوبية التوراة الحالية ومزجها بين المقدس البشرى.وقد أكدت المشنا أيضاً على إباحة التعامل بالربا مع الأغيار فى النص التالى:

" אין מקבלין צאן ברזל מישראל, מפני שהיא ריבית.  אבל מקבלין צאן ברזל מן הגויים, ולווים מהן ומלווים אותם בריבית; וכן בגר תושב. "

 

 

"لا يُقبل ضأن الحديد([11]) من الإسرائيلى؛ لأنه بمثابة ربا، ولكن يُقبل من الجوييم (الأغيار)، فنقترض منهم ونقرضهم بربا، وكذلك (الحال) مع الجيرتوشاف (الغريب المقيم)" ([12]) .

 على أن إباحة الربا مع الأغيار بوجه عام قد تصعَُدت إلى مستوى الوجوب([13])، والذى هو معلوم بالتواتر([14]).

وعليه فقد حاول فقهاء اليهود تبرير التعامل بالربا مع غير اليهود بعدة أسباب، منها ما يأتي من قبيل المعاملة بالمثل؛ ذلك أنه لما كانت الشعوب الأخرى تتعامل بالربا، سواء فيما بينها وسواء مع اليهود، فقد جاز لليهود كذلك أن يعاملوهم وفق أعرافهم تلك([15])، فكيف يكون من العدل أن يباح للغريب إقراض الإسرائيلى بربا، بينما يحرم على الإسرائيلى أن يقرض هذا الغريب بربا أيضا([16]).

ومن الفقهاء من قصر التعامل بالربا مع الأغيار على الأنشطة التجارية فقط، ورأى أنه ليس ثمة عيب أخلاقى فى ذلك المنطق البشرى، لكن يحرم أخذ الربا من الأجنبى إن كان القرض بسبب العوز والحاجة([17])، ومنهم من أباحه كذلك، طالما أن ذلك القرض الربوى يتم برضا الطرفين([18])، بينما أجازه البعض الآخر فى ضوء معطيات الواقع الاجتماعى- الاقتصادى الذى يعيشه اليهود، فعلى سبيل المثال قد وجد حاخامات أوروبا فى العصور الوسطى المبرر للتعامل بالربا مع النصارى نتيجة حرمان اليهود من تملك الأراضى، علاوة على أعباء الضرائب التى كانت مفروضة عليهم([19]).

غير أنه وأياً كانت المبررات، ومهما تعددت، فإنها بالطبع لن تكون مقبولة، على الأقل، بالمنطق نفسه الذى قد حرم الربا فيما بين اليهود أنفسهم.

وعلاوة على ذلك فإذا كان الضغط والتضييق على المدين اليهودى لأجل رد الدين يعتبر إثماً، وخاصة إن كان فقيراً وغير قادر على الرد، فإنه على العكس من ذلك يجب على اليهودى أن يضيق على الجوى (الأجنبى) ([20]).

وبالرغم من وجوب التعامل بالربا مع غير اليهودى، فإن إقراض اليهودى لليهودى دون مقابل مُقدَُم على إقراض اليهودى للأجنبى بربا([21]).

وإن كنا نفهم أن "دفع الضرر" فيما بين اليهود مقدم على "جلب المنفعة" من غير اليهودى، فإن هذا المبدأ، ولو أنه يمثل ضرورة شرعية وأخلاقية فى آن معاً، فإنه قد لا يأتى هنا إلا تتويجاً للفكر العنصرى المتحيز ضد غير اليهودى، سيما وأن مبدأ "دفع الضرر" نفسه لا ينطبق على غير اليهود، إذ أن عدم إقراض غير اليهودى حتى بالربا قد لا يُقصد منه إلا الإضرار.

 

ثانياً : الربا في الإسلام

إذا كان الإسلام قد حضَّ على العطاء والصدقة والتعاون والتكافل ، فإنه على العكس من ذلك قد أكد على حرمة الوجه المقابل لهذا البر ، وهو العطاء بمقابل أي القرض الربوى ، الذي يعنى استرداد الدين بزيادة مقتطعة من لحم المدين ( إن جاز التعبير ) . وفى ذلك قال تعالى :]  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [ ([22]) .

وقد ورد تحريم الربا في القرآن الكريم والسنة النبوية وأجمع عليه علماء الأمة من السلف إلى الخلف ، ويعنى بوجه عام الزيادة على رأس المال ، وكل زيادة – مهما قلَّت – رباب لأنه لا يحل إلاَّ رأس المال ، فكل زيادة على رأس المال حرام ، مهما تكن الأسباب الباعثة على الاستدانة ، ومهما تكن مقاديرها ([23]) .

ودون الاستفاضة في تفاصيل وأحوال الربا والتي تحفل بها المؤلفات الفقهية ، فإن ما يعنينا في هذا الشأن هو أثر اختلاف الدين في التعامل بالربا في الإسلام .

بداية لقد اتفق الفقهاء المسلمون على أن الربا بكل أنواعه ، كما هو محرَّم بين المسلمين أنفسهم ، محرَّم أيضاً بين المسلمين والذميين في دار الإسلام . أما المعاملة بالربا بين أهل دار الإسلام ( مسلمين وذميين ) وبين أهل دار الحرب فحمها مختلف بين الفقهاء .

يذهب أبو حنيفة وبعض الحنابلة إلى أنه يجوز للمسلم أو الذمى المستأمن أن يتعامل بالربا مع أهل دار الحرب في دار الحرب ([24]) ، بينما ذهب أبو يوسف وسفيان الثوري وبعض الحنابلة إلى حرمة الربا سواء في دار الإسلام أو في دار الحرب إلاَّ بين مسلم وحربى لا أمان بينهما ([25])؛ بحجة أن مال الحرب مباح ، وإنما حظره الأمان ، وبدون الأمان يرجع إلى أصله ، وهو الإباحة .

أما جمهور الفقهاء ، وهم مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف والزيدية والظاهرية فعندهم لا يجوز لأهل دار الإسلام من المسلمين والذميين أن يتعاملوا بالربا مع أهل دار الحرب مطلقاً ، سواء في دار الإسلام أو في دار الحرب ، وحجتهم في ذلك عموم الآيات الدالة على تحريم الربا مطلقاً ، كما أن ما كان حراماً في دار الإسلام ، كان حراماً في دار الحرب كسائر الفواحش والمعاصي ، علاوة على أن تحريم الربا ثابت كذلك في حق الكفار ، لأنهم مخاطبون بالمحرمات ([26]) ، لقوله تعالى : " وأخذهم الربا وقد نُهوا عنه ... " ([27]) .

والواضح أن رأى الجمهور هو الراجح للأسباب الواردة ، من جهة ، ومن جهة أخرى لأنه يأتي اتساقاً مع مساواة الإسلام المطلقة في تحريم الظلم والفواحش بين البشر أجمعين .

 

 

 

([1]) لاويون: 25/35-38.

([2])  « فِي آخِرِ سَبْعِ سِنِينَ تَعْمَلُ إِبْرَاءً. وَهَذَا هُوَ حُكْمُ الإِبْرَاءِ: يُبْرِئُ كُلُّ صَاحِبِ دَيْنٍ يَدَهُ مِمَّا أَقْرَضَ صَاحِبَهُ. لا يُطَالِبُ صَاحِبَهُ وَلا أَخَاهُ لأَنَّهُ قَدْ نُودِيَ بِإِبْرَاءٍ لِلرَّبِّ. الأَجْنَبِيَّ تُطَالِبُ وَأَمَّا مَا كَانَ لكَ عِنْدَ أَخِيكَ فَتُبْرِئُهُ يَدُكَ مِنْهُ" (تثنية: 15/1-4).

([3]) من هذه الصفات أنه ملعون:(إرميا: 15/10)، كذلك وصف باللص: (حزقيال: 22/13).

([4])משנה תורה , מלוה ולוה , ד : א

([5]) מקראות גדולות , ויקרא , עמ'355

([6]) خروج: 22/24.

([7]) חמשה חומשי תורה עם פירוש רש"י , ויקרא , שם , עמ' 205

([8]) حزقيال: 18/13

([9])משנה תורה , מלוה ולוה , ד :ג  - קצור שולחן ערוך , חלק א , עמ' 196

([10]) تثنية: 23/19-20.

([11]) مصطلح فقهى يشير إلى ضرب من ضروب الربا، وهو نوع من استثمار الأموال والممتلكات، ومله الاتفاق بين شخصين على أن يراعى أحدهما ضأن الآخر نظير المناصفة فى الصوف واللبن وما يولد، بحيث يشترط صاحب المال على الآخر ضمان ماله فى كل الأحوال دون خسارة إذ يتحملها متعهد ذلك المال بمفرده.

- מדריך לתלמוד , שם ,עמ' 208

([12])ששה סדרי משנה, בבא מציעה , ה : ו

([13])משנה תורה , מלוה ולוה , ה : א

([14]) משניות מבוארות , נזיקין , בבא מציעה , עמ' 173

([15])שם שם

([16])עטורי תורה , דברים , שם , עמ' 142

([17])דוד זוהר , שם , עמ' 228

([18])מקראות גדולות , דברים , שם , עמ' 279

 

([19]) מרק כהן , שם , עמ' 139.

([20])משנה תורה , מלוה ולוה , א : ב

([21])שם , ה : ז

(1) البقرة : 278 – 281 .

(2) محمد أبو زهرة : تحريم الربا تنظيم اقتصادى ( الدار السعودية للنشر ، الرياض ، 1985 ) ، ص 34 .

(3) المبسوط للسرخسى ، ج10 ، ص 28 ، ج14 ، ص 57 – الجصاص ، ج1 ، ص 471 .

(4) المغنى ، ج8 ، ص 458 .

(1) انظر بالتفصيل : إسماعيل لطفى فطانى ، مرجع سابق ، ص ص 281- 284 .

(2) النساء : 161 .